المـُـهَـرِّج
آخر تحديث GMT05:21:44
 العراق اليوم -

المـُـهَـرِّج

 العراق اليوم -

 العراق اليوم - المـُـهَـرِّج

بقلم: يوسف ناصف

هَبَطَ من على خشبةِ المسرحِ، وسَبَقَتْهُ رُوحُه للقبر ! ليس ضروريًّا أن يُدفَنَ جسدُكَ لتصبح ميتًا . خرجَ من الأبواب الخلفيَّة، ناظرًا لِقَدَمَيه، مُتعجِّباً كيف تحملانه إلى الآن ! كُلَّما رفع رأسه استقيظت الأفكارُ المزعجةُ، وسيطر عليه شبحُ الإخفاق . ظنَّ أنه ممثِّل جيِّد، يمتلك جميع الأدوات والمهارات اللازمة لذلك، لم يعرف أنَّ هذا اليوم هو يوم سعده وشقائه : يوم سعده لوقوفه للمرَّة الأولى -ممثلاً- أمام جمهور مُتحمِّس للتَّصفيق، حتَّى للسَّخافات ! لم يعلم أنه يومًا سوف يخلد فى خلايا مخِّه المُخصَّص للذِّكريات المؤلمة . صَعدَ مُجبَرًا، فوقف وقَفَاهُ للجمهور وأخذ يرقص ويقفز ويُهلِّلُ : أنا المُهَرِّجُ اضحكوا ... يعلم أنه فيلم من أربعينيات القرن الماضي يُعادُ تمثيلُه على مسرح مُلَوَّن ! فكان يوم شقائه أيضًا . الفُرصةُ مُهَيَّئةٌ الآن لإفراز بعض مِن C9H13NO3 (هرمون تفرزه غُدَّة الكظر، التي تقع فوق الكُلية مُباشرةً) إنه الأدرينالين ، يجري في عروقي الآن ، يسبح في دمي بكلِّ حُريَّة ؛ ليقوم بعمله ! ضوضاءُ الشَّارعِ وتداخُلُ الأصواتِ لم يُقنِعاه بفعل شيءٍ ما، اعتاد عليه عندَ الغضب والنَّوم . وقفَ في وسط الطَّريق يحاولُ تذكُّر حُكم الاستمناء عندَ المذاهب الأربعة، وهل استمناء العقل يجوز أم هناك خلاف ؟ وهل الاستمناءُ اليدويُّ للعقل ينقُضُ الوضوءَ ويُوجِبُ الاغتسال ؟! داخلَ عربة المترو : المشهد مُكَرَّر ... زِحامٌ شديدٌ ، البشر عاشق ومعشوق ! يتشاركون كلَّ شيءٍ ويتقاسمونه : الهواء، التُّراب، العرق ... يجري بينهم، ويسقطُ من أعلى إلى أسفل، يتبخَّرُ على الوجوه، ويتكثَّف عند سمائهم فتسقطُ أمطارُ الطِّيبة، فتبتهج وتتفاءَلُ ... _ آلو .... قالتها من تحت نقابها بصوت خافت جدًّا . _............ _ والله بحبك ، وما أقدر أعيش من غيرك . _................ _ بجدّ خلاص مش زعلان ؟ _............. _ بحبك بحبك . ابتَسَمَتْ ، نعم ابتَسَمَتْ ، لم يكن يحتاجُ لمشاهدة فمها ليعلمَ ؛ فقد اتسعت حدقتا العين بقدرٍ كافٍ لفضحها ! كما سقطت بعضُ قطراتِ النَّدى فبلَّلَتْ خمارها . وَضَعَ يَدَه في جيب بزَّته وأخرج مُذَكِّرةً صغيرةً، وكَتَبَ : _ كوي البدلة والقميص . _ كتابة مُذَكِّرة الأستاذة ليلى . _ صاحب البيت . _ يَكْش تولع بقى . _ الاتصال برنا، وماتنساش تقول لها بحبك وحشتينِي؛ علشان زعلت المرَّة اللي فاتت. _ هُوَّ انت بتبُصَّ عليَّ ليه يا أستاذ ياللي جنبي ؟ شَعَرَ ببعض الحرج وابتسم ابتسامةً خفيفةً، وقال في هدوء : _ أنت في مترو الأنفاق، إذًا أنت مُرَاقَب . وَضَعَ مُفَكِّرتـَه في مكانها، وتهيَّأ لِلنُّزول . الأوضاع مقلوبة الآن . لِمَ يتذكَّر كلَّ ما يحدثُ على خشبة المسرح كُلَّما نظر إلى أسماء المحطَّات المكتوبة أعلى باب القطار ؟ مَحَطَّة ، ثُمَّ مَحَطَّة ، ثُمَّ مَحَطَّة ... مَحَطَّات جمع مؤنث سالم على وزن (مَفْعَلَة) (مَفَعْلَات) مَحَطَّة ... مَحَطَّات ! يعلم أنَّ أغلب مَن حوله في العَرَبة لا يعرفون الكثير عن أمورٍ يُجيدُها منذُ نُعُومة أظافره. المُمَثِّلون أكثر من البشر ! تذكَّر حركة قميصه المُعلَّق فوق مقبض شُبَّاكه، فَزِعَ وظَنَّ أنه شبحٌ يحاولُ أن يُمازِحَه، ونَسِيَ أنَّ الهواء والقميص قد يتقمَّصان دورَ شبحٍ مُخيفٍ ... المُمَثِّلون أكثر من البشر ! هبطَ صاحبُ البزَّة من العربة يتمتم بانفعال : أغبياء . صعدت مكانه امرأة أربعينية، تجرُّ وراءَها طفلاً سمينًا تُدَحرِجُه وراءَها بشكلٍ عجيب ! _ماما ... اعملي لى بيتزا لَمَّا نروَّح . _ اِنت مش لِسَّه واكِلها امبارح عند خالتك ؟ نظر لها غاضبًا، وانفتحت نافورة بكاء من عينيه ! _ أنا عايز بيتزا . _ حاضر يا حبيبِى هاتصل بخالتك، وأعرف الطَّريقة وأعملها لك . نظر لها مُتَحَمِّسًا، وانحنَى نحوَها : _ 4 أكواب دقيق، 1 ملعقة ملح، 1 ملعقة سُكَّر، ربع كوب زيت، وكوب ماء ونص، حلقات البصل والفلفل الرُّومي، وجبن مودزريللا ، وسجق مُقَطَّع حلقات . ابدَئي بعمل العجين : بخلط المقادير الجافَّة جيدًا، ثُمَّ أضيفي الزَّيت واخلطيه جيدًا حتَّى يصبح الخليط مُشابهًا لِفُتات الخبز، أضيفي الماء تدريجيًّا ؛ حتَّى تحصُلي على عجين مُتَمَاسِكٍ ، غَطِّيه واتركيه جانبًا حتَّى تخمتر لمدة ساعة . سخِّني الفُرن، افردي العجين بشكل رفيع، أضيفي له الصَّلصة، رُشِّيه بنصف كِمِّـيَّة الجُبن، ثُمَّ البصل، ونوِّعي الفلفل والسُّجق المطبوخ. اخبزيه مِن 15 إلى 20 دقيقة ؛ حتَّى ينضُج ، أطفئي نار الفُرن ثُمَّ انثري كِمِّـيَّةً من الجُبن، وأدخليها الفُرن من غير أن تُشعِلي النَّار، واتركيها لتذوب، وقدِّميها ساخنةً ! لم تنزعج مِمَّا قاله هذا الفُضُوليُّ، بل أخرجت من حقيبة ابنها المدرسيَّة قلم رصاص وقَطَعَتْ ورقةً من كرَّاسته، وأعطهما له . أخذهم منها، وكتبَ الطَّريقة وذيَّلَها بتوقيعه ... المُهَرِّج لِصُنعِ بيتزا إيطاليَّة جيِّدة لابُدَّ أن تصنعها بنفسك ... يتذكَّر هذه الجُملة جيِّدًا يعشقُ صناعة السَّعادة ؛ فهي هوايته المُفَضَّلَة ... طالما حلمَ بصناعةِ جزءِ منها فوق خشبة المسرح ! بدأت الأمور تستقر، ويتباطأ خفقانُ قلبه، وبدأ يشعرُ أنَّ جسمه أصبح أخفَّ من الهواء، نظر عبر زُجاج الباب، توقَّف قطار على الرَّصيف الآخر . رآها تبتسمُ وتحرِّك يديها بحركات للشَّخص فى المقعد المقابل لها، تقول له بالإشارة : _ أنا أسعدُ مخلوقة على وجه الأرض، ونفسي آخدك في حضني أوي . _ .......... _ اليوم ده الوحيد اللي اِتمنِّيت إني أتكِّلم وأصرخ فيه، نفسي أقول : بحبك، بحبك، وكلّ النَّاس دي تسمع وتفهم أنا بقول إيه . _.............. لوَّح بيده من القِطار الآخر ؛ ليلفتَ نظرها إليه ، شاهدته . قال لها بالإشارة : _ أنا أسمع وأتكلَّم، وأنا شاهد على حبك .... _ اِنت مين ؟ _ أنا المُهَرِّج تحرَّك القطارُ، وغابت صاحبةُ الابتسامة . تُشبِهُ العذراءَ المرسومة في الكنيسة المجاورة لمنزله . الاثنان لا يتحدَّثان، فقط يتألَّمنَ ويبتَسِمنَ في رضا . بدأت الدُّنيا تهتزُّ من تحت قدميه، يشعرُ أنه خفيف ! يسقطُ في هدوءٍ، تحمِلُه الأجساد، لا يستطيعُ السُّقوط بِحُرِّيـَّة . يُرفَعُ سِتارُ المسرح، فيعمُّ الصَّمتُ المكانَ، تُضاءُ الأنوارُ، ويخرجُ للجُمهور، يقول بأدب : "أنا مُمَثِّلٌ جيِّد، لا أحبُّ التَّصفيقَ، أحبُّ الحياةَ، وأصنعُ السَّعادة، وأعرف الكثير من أمور الحياة" . كان هذا حُلمَه الذي شاهده قبل أن تتبرَّع إحداهُنَّ وتـُغرِقَ وجهَه بالعِطر، ليفيقَ مِن إغمائه !

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المـُـهَـرِّج المـُـهَـرِّج



GMT 15:02 2021 الأحد ,21 شباط / فبراير

من عيون شعر العرب - ١

GMT 14:39 2021 الأربعاء ,17 شباط / فبراير

أبيات من شعر أبو الطيب المتنبي

GMT 14:46 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

أبيات من الشعر اخترتها للقارئ

GMT 14:27 2021 السبت ,30 كانون الثاني / يناير

من شعر المتنبي

GMT 14:57 2019 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

على مفترق يسمونه حضارة وجدتني تائهة

أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 21:21 2021 الثلاثاء ,05 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 07:48 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

روعة قيادة رولز رويس على الطريق لا تُضاهيها متعة شيء

GMT 17:46 2016 السبت ,22 تشرين الأول / أكتوبر

"ملوك الكاسيت" ضيوف إسعاد يونس في "صاحبة السعادة"

GMT 22:56 2018 السبت ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

الفنان محمود ياسين يغيب عن عزاء نسيبه

GMT 17:18 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

تعرف على اتيكيت حضور الحفلات الموسيقية والغنائيَّة

GMT 01:54 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

تقرير جديد يكشف أن ميلانيا ترامب لم تطمح لدور السيدة الأولى

GMT 01:37 2016 الأربعاء ,15 حزيران / يونيو

ماغي بوغصن تراهن على وصول فكرة "يا ريت" للمشاهدين

GMT 04:03 2017 الخميس ,13 إبريل / نيسان

الفيلة تدرك أن جسدها العملاق يمثل عقبة كبيرة

GMT 11:03 2014 الجمعة ,24 تشرين الأول / أكتوبر

"مغارة الشموع" كهف مليء بالأسرار تحتضنه القدس
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq