وسط تأييد شامل من الشركاء والخصوم، بدأ رئيس الوزراء المكلف، عادل عبد المهدي، أولى خطوات تشكيل حكومته المقبلة، التي يتوجب عليها نيل ثقة البرلمان بعد شهر ونصف الشهر من الآن، في حين أكد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، عزمه على مساعدة عبد المهدي، في مهمته، دون وضع ضغوط عليه، إلا أنه رمى بسهم في اتجاه آخر، بمنحه مهلة عام لتحقيق الإصلاحات المرجوة بنجاح، وإلاّ مواجهة شعبية.
وهنَّأ الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش الرئيس العراقي المنتخب، برهم صالح، على انتخابه رئيساً لجمهورية العراق، معبراً عن تطلعه إلى العمل بشكل وثيق معه في شأن كل القضايا ذات الاهتمام المشترك. وأمل غوتيرتش في بيان بأن "يمهِّد انتخاب الرئيس الطريق إلى التشكيل السريع لحكومة شاملة تماشياً مع الجداول الزمنية الدستورية".
وكذلك رحَّب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق المنتهية ولايته يان كوبيش بتكليف عبد المهدي بتشكيل الحكومة العراقية المقبلة، مجدداً دعم المنظمة الدولية للشعب العراقي وهو يبني مستقبلاً جديداً من السلام والاستقرار والازدهار. وقال إن العراق بحاجة إلى حكومة وطنية مستقرة تجمع العراقيين معاً وتُعيد لهم الأمل في بلدهم وهم يمضون قدماً في مرحلة ما بعد "داعش"، مشدداً على ضرورة تشكيل الحكومة ضمن الجدول الزمني الدستوري، وأن تتسم هذه الحكومة بالمهنية والكفاءة ومراعاة التمثيل الحقيقي والشامل للنساء في المناصب الوزارية. وحض القادة السياسيين على الوفاء تحديداً بتعهداتهم بشأن تمثيل المرأة في السياسة، داعياً رئيس الوزراء المكلف إلى تعيين نساء مؤهلات في مناصب وزارية رئيسية.
وكان كوبيش هنَّأ برهم صالح بانتخابه رئيساً للعراق من مجلس النواب. وعبَّرت بعثة الأمم المتحدة عن تطلّعها للعمل مع الرئيس الجديد في مهمته بصفته ضامناً لدستور العراق وتنفيذه.
واستقبل الرئيس العراقي برهم صالح أمس كلاً من رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي، ورئيس الوزراء المكلف عادل عبد المهدي، مبيناً في تغريدة على "تويتر" أن اللقاء كان تحت عنوان واحد وهو التداول السلمي للسلطة وتكاتف الجميع لخدمة العراقيين.
من جانبه، طالب الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر، أمس، رئيس الوزراء العراقي المكلف عادل عبد المهدي بتشكيل حكومة وزارية دون ضغوط حزبية. وقال الصدر، في تغريدة على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر": "بدأنا خطوات الإصلاح، وها نحن نتممها بقدر المستطاع، وقد تمكنّا من جعل رئيس الوزراء مستقلاً، وأوعزنا له بتشكيل كابينة وزارية بدون ضغوطات حزبية أو محاصصة طائفية أو عرقية مع الحفاظ على الفسيفسائية العراقية الجميلة".
وأضاف: "أوعزنا بعدم ترشيح أي وزير لأي وزارة من جهتنا مهما كان، واتفقنا على إعطائه مهلةَ عامٍ لإثبات نجاحاته أمام الله وأمام شعبه ليسير بخطى حثيثة وجادة نحو بناء العراق وفق أسس صحيحة، كما حاول سلفه من قبله ذلك، مبتعداً عن التفرُّد بالسلطة والمنصب؛ فإما أن ينتصر الإصلاح تدريجياً، وإما أن ينتفض الشعب كلياً".
وفيما حظي عادل عبد المهدي بتأييد واسع من مختلف القوى والكتل السياسية بصرف النظر عما إذا كانوا شركاء أم خصوماً، فإن الرئيس العراقي برهم صالح لم يحظَ بتأييد كتلة الحزب الديمقراطي الكردستاني التي أعلنت تأييدها لرئيس الوزراء المكلف عادل عبد المهدي.
وأكد رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني في مؤتمر صحافي أمس، أن آلية انتخاب رئيس جمهورية العراق لا تعبر عن إرادة شعب كردستان، وأن ما جري سيؤثر بالتأكيد على آلية تشكيل حكومة الإقليم المقبلة، ويعد سابقة... وبداية خطيرة للمرحلة المقبلة. وتابع: "أبدينا كل المرونة من أجل أن نتوافق مع الاتحاد (الوطني الكردستاني) بشأن ترشيح شخصية واحدة، ولكن الاتحاد اختار طريقاً آخر، وبذلك شقَّ وحدة الصف الكردستاني وسيكون لها تداعيات عراقياً وتأثيرات كبيرة كردستانياً، وسنتعامل مع الاتحاد على أساس جديد عند تشكيل الحكومة كما تعاملوا هم في مسألة رئاسة الجمهورية".
وزاد: "ليعلم الجميع وبصراحة شديدة، نحن لا يهمنا المنصب بذاته، ولكن حاولنا لأقصى حد الحفاظ علي وحدة الصف الكردستاني، ولكن بناء على تعامل الاتحاد سنتعامل معه في كردستان بأسلوب جديد". ورداً على سؤال بشأن رئيس العراق برهم صالح، قال بارزاني: "إننا نحترمه كشخص ولكن الجميع يعرفون أنه عاد إلى الاتحاد من أجل هذا المنصب فقط، بعد أن خرج من حزبه وأسَّس تحالفاً، فيبدو أنه لم يكن وفياً لا لحزبه ولا لتحالفه، فنتمنى أن يكون وفياً لكردستان".
وأكد نيجيرفان من جهة ثانية دعم الكرد لعبد المهدي. وقال في مؤتمره الصحافي بمدينة أربيل: "نحن سعداء بتكليف الدكتور عادل عبد المهدي بمنصب رئاسة الوزراء، كما نعلن دعمنا الكامل له، ونتمنى له الموفقية والنجاح". وأضاف أن بغداد تعلمُ جيداً أين يكمنُ القرار السياسي في إقليم كردستان، معرباً عن الجديةِ للمشاركةِ في المشروع السياسي في العراق. كما أعرب عن تفاؤله للمرحلة الجديدة بين أربيل وبغداد حيث قال: "اليوم توجدُ لدينا فرصة أخرى لبدء مرحلة جديدة بين أربيل وبغداد على أساس الدستور، وأن نستفيد من أخطاء الماضي لبناءِ مستقبل زاهر لإقليم كردستان والعراق معاً".
وتابع قائلاً: "ذهابنا إلى بغداد لم يكنْ لجمعِ الأصوات لنيلِ منصب رئيس الجمهورية بل كان للحفاظ على وحدة الكرد"، موضحاً أنه طُلب مني الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية، وكنا سنحصلُ على دعم جميع القوى العراقية والدولية إن أردنا ذلك، مشدداً بالقول: "نحن أردنا أن ندافع عن استحقاقات إقليم كردستان، فوحدة الصف أهم من جميع المناصب؛ فقوَّتُنا تكمن في وحدتنا".
وفي تحدٍ للمتشائمين المتوقعين للكوارث دائماً، والذين يزعمون أن العراق قد بات عاجزاً بفعل الانقسامات الداخلية، توصلت المؤسسة السياسية في بغداد إلى اتفاق وسطي بشأن كل من رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء، منهية بذلك أسابيع من المناورات السياسية المكثّفة.
رغم أن منصب الرئاسة فخري إلى حد كبير، طبقاً للدستور العراقي الجديد، فسيكون من الخطأ تجاهله باعتباره غير مهم وغير مؤثر، فالرئيس يعد رمزاً لوحدة العراقيين وكرامة دولتهم. كذلك يتولى الرئيس مهمة اختيار وترشيح رئيس الوزراء، ويتم اللجوء إليه في أوقات الأزمات السياسية باعتباره قناة لحل النزاع. ما يفوق ذلك يعتمد على شخصية الرجل الذي يشغل منصب الرئيس، فقد كان جلال طالباني، الرئيس الراحل، شخصية بارزة يتجاوز ثقلها حيز المنصب الشرفي.
ورغم افتقار الرئيس العراقي الجديد برهم صالح لمكانة طالباني، فلا ينبغي إلغاؤه واعتباره فقط جزءاً من الديكور السياسي في بغداد. مع ذلك يعد التعيين الرئيسي الأبرز حالياً هو تعيين عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء مكلفاً بتشكيل الحكومة. وقد نجح السياسي البالغ من العمر 76 عاماً، الذي شغل عدة مناصب، منها وزير المالية، ووزير النفط، ونائب الرئيس، في الحصول على دعم كافة المجموعات المتناحرة في المعسكر الشيعي، بما فيها الكتلة التي يقودها مقتدى الصدر، الذي يؤيد النزعة القومية العراقية، والكتلة التي يقودها هادي العامري المقرب من إيران. وقد تمكّن في الوقت نفسه من الحصول على دعم الكتلة التي يقودها حيدر العبادي، رئيس الوزراء المغادر لمنصبه، والفصيل الذي يتزعمه نوري المالكي، الذي يمثل البيدق الأساسي لإيران على رقعة الشطرنج السياسي في العراق.
نظراً لإعادة تقديم عبد المهدي لنفسه كشخصية مستقلة من خلال الانفصال عن حلفائه الشيعة القدامى المتمحورين حول عائلة الحكيم، فإنه يستطيع أن يكون أول رئيس وزراء للعراق يتجاوز السياسة القائمة على التحزب. ربما يكون ذلك ميزة وعيباً في الوقت ذاته، فمن جانب ربما يتمكن عبد المهدي من الابتعاد عن المناورات السرية المشبوهة التي لوثت السياسة العراقية منذ سقوط صدام حسين، ومن جانب آخر ربما يؤدي ذلك إلى سحب الكتل المتنافسة التي دعمته رئيساً للوزراء، للدعم في أي وقت، مما يتركه دون أغلبية في البرلمان.
يمكن وصف عبد المهدي بالطائر النادر في قفص الطيور السياسي العراقي؛ حيث ينحدر من عائلة بارزة من رجال الدين والسياسيين خلال فترة الحكم الملكي. ورغم ارتباط عائلته بالمناصب الدينية، فقد تم إرساله إلى "كلية الجيزويت الأميركية" في بغداد؛ حيث تشكل العقيدة المسيحية والتاريخ المسيحي جزءاً مهماً من المنهج الدراسي. عندما استولى الجيش على السلطة في بغداد، انجذب عبد المهدي إلى حزب البعث المعارض الذي كان يروّج للقومية العربية مع قدر من الاشتراكية.
مع ذلك، لم تكن الحركة البعثية هي المرفأ السياسي الأخير لعبد المهدي، فمحطته التالية كانت الحزب الشيوعي؛ حيث تعرف للمرة الأولى على مفهوم الاقتصاد السياسي، والصراع الطبقي، والمادية الجدلية. مثل فراشة لا تستطيع أن تقف على زهرة واحدة لمدة طويلة، تخلى عبد المهدي عن انتمائه الشيوعي بالانضمام إلى فصيل منشق مؤيد لأفكار ماو تسي تونغ، وبعد قضاء فترة في السجن بسبب نشاطه السياسي، تمكّن من الهروب إلى المنفى في فرنسا؛ حيث وجد مأوى آخر متمثلاً في جماعات الديمقراطية الاجتماعية. وقد منحت الإقامة لعشرات السنوات في فرنسا عبد المهدي فرصة لمعايشة الحياة بشكل مباشر، في دولة ذات نظام ديمقراطي علماني، إلى جانب العمل في كثير من المراكز البحثية، وتحرير مجلات باللغتين الفرنسية والعربية.
وأصبحت فرنسا على كافة الأصعدة بمثابة وطن ثان لعبد المهدي، فقد تزوج هناك وأنجب أبناءه الأربعة الذين حصلوا جميعاً على الجنسية الفرنسية. كذلك نجح في تكوين شبكة من الأصدقاء في فرنسا من أكاديميين وخبراء اقتصاد. ورغم كل تلك التغيرات في الانتماءات السياسية، ظل عبد المهدي مخلصاً لفكرة واحدة، هي التخلص من النظام السلطوي المستبد في بغداد، الذي تجسد منذ عام 1970 في شخص صدام حسين.
وقد لجأ مثل كثير من المنفيين العراقيين الآخرين إلى إيران تحت حكم الشاه، للحصول على الدعم. مع ذلك وقّع صدام حسين عام 1975 معاهدة أرادها الشاه نفسه، وفي المقابل امتنع الشاه عن تقديم الدعم لخصوم الحاكم العراقي المستبد من الأكراد والشيعة. تغيّر نظام الحكم في إيران عام 1979 مانحاً المنفيين العراقيين مصدراً جديداً محتملاً من الدعم، في الجمهورية الإسلامية التي تأسست حديثاً في طهران آنذاك، ووجد عبد المهدي ملجأ سياسياً جديداً، ونظراً لبقائه في منفاه في فرنسا، اختلط بمنفيين كانوا يروجون للحل الإيراني لمشكلة العراق. مع ذلك كان حريصاً بما يكفي للحفاظ على استقلاله كاقتصادي وكناشط سياسي عراقي. ورغم الحرب المكلّفة، التي استمرت ثمانية أعوام، لم تتمكن جمهورية الخميني في إيران من إسقاط صدام حسين، ولم يتم ذلك العمل حتى عام 2003، عندما دمّر التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، قبضة صدام التي ظلت لعقود محكمة على السلطة في بغداد.
ويواجه عبد المهدي كثيراً من التحديات الكبرى، فعلى الصعيد المحلي الداخلي عليه مكافحة الفساد الذي أدى إلى تعفن النظام السياسي بالكامل، وعلى صعيد السياسة الخارجية، عليه المواءمة بين المصالح والطموحات المتعارضة لإيران، التي لا تزال توسعية، وإدارة ترامب التي يزداد تمسكها بمواقفها وآرائها في واشنطن.
أرسل تعليقك