تصاعدت عمليات القمع والاستهداف التي يتعرض لها الصحافيون العراقيون منذ انطلاق الاحتجاجات مطلع أكتوبر (تشرين الأول) 2019، إذ تستمر الاستهدافات التي تقوم بها ميليشيات مسلحة بحق الصحافيين والإعلاميين العراقيين، ولا سيما أولئك الذين يغطون التظاهرات.فقد اغتيل مراسل قناة دجلة الفضائية أحمد عبدالصمد، والمصوّر صفاء غالي، في البصرة بعد تغطيتهما تظاهرات هناك، ليل الجمعة 10 يناير (كانون الثاني)، ويتهم صحافيون ميليشيات مسلحة مرتبطة بأحزاب سياسية موالية لطهران بالوقوف وراء عمليات ممنهجة لقتل الصحافيين وترويعهم.
ونشر مرصد الحريات الصحافية مقطع فيديو للصحافي أكد من خلاله تعرضه لتهديدات من أطراف قريبة من إيران لانتقاده التجاوزات بحق المتظاهرين أثناء تغطية التظاهرات.
ويعد هذا الاغتيال هو الثالث ضد صحافيين منذ انطلاق الاحتجاجات العراقية، إذ قتل المصور الصحافي هشام فارس بنيران قناص في 2 أكتوبر خلال تغطية تظاهرات ساحة الخلاني وسط بغداد، وفي 7 ديسمبر (كانون الأول) قتل المصور الصحافي أحمد المهنا بعد تعرضه لإطلاق نار خلال تغطيته اقتحام قوة مسلحة مجهولة ساحة الخلاني وكراج السنك، فضلاً عن عشرات التهديدات والاحتجاز والاعتقال الذي تعرض له صحافيون، وفق النقابة الوطنية للصحافيين.
العراق في الصدارة
مؤشرات عدة تؤكد معاناة الصحافيين العراقيين، وتعرضهم لعمليات قمع وانتهاكات مستمرة من قبل أجهزة الدولة الأمنية والميليشيات المسلحة منذ 2003، إذ يأتي العراق في صدارة الدول الأكثر انتهاكاً لحرية العمل الصحافي، وفق منظمات دولية.
ويحتل العراق المرتبة 156، من أصل 180 دولة، في مؤشر حرية الصحافة لعام 2019 الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود”.
في غضون ذلك، دانت المفوضية العليا لحقوق الإنسان، اغتيال صحافيين واعتقال آخرين على خلفية التظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها محافظة البصرة.
وقالت المفوضية في بيان إنها تدين “أشكال العنف والاغتيال والخطف التي تطال المتظاهرين والناشطين والصحافيين”.
ويرى صحافيون وإعلاميون أن عمليات الترهيب التي تمارس ضدهم هدفها إسكات الأصوات المعارضة للسلطة، في حين بينوا أنهم يعملون في غياب القانون ودعم من بعض الأجهزة الحكومية للجماعات المسلحة، وأشاروا إلى أن غياب التشريعات التي تحمي حرية التعبير هو السبب الأساس في معاناتهم.
واقع بائس
ووثقت النقابة الوطنية للصحافيين العراقيين، في تقريرها السنوي الصادر الأحد 12 يناير، 188 انتهاكاً طاول صحافيين وإعلاميين عام 2019.
وأشار رئيس النقابة ياسر السالم إلى أن استمرار عمليات التصفية الجسدية والمنع والاحتجاز والاختطاف والاعتقال بحق الصحافيين يجعل واقع الصحافة العراقية مريراً ومشؤوماً وبائساً وبلا مستقبل.
وقال السالم، إن “الاغتيالات وعمليات الخطف والاعتقال التي حصلت سواء ضد صحافيين أو ناشطين تهدف إلى إسكات الصوت المعارض للسلطة”.
أضاف لـ “اندبندنت عربية” إن “عمليات الاغتيال تعد انقلاباً على الدستور وعلى العقد الاجتماعي المبرم بين أطياف الشعب العراقي والقوى السياسية التي وضعت هذا الدستور”، مشيراً إلى أن “هناك اختراقاً من قبل جماعات مسلحة ومليشيات للمؤسسات الأمنية، جعل تلك المؤسسات غير قادرة على أداء واجباتها، بل وتتخلى بشكل مباشر عن تلك الواجبات”.
وعن إعلان وزير الداخلية منح إجازة حمل السلاح للصحافيين، بيّن السالم أن “هذا الإعلان بمثابة القول للصحافيين دافعوا عن أنفسكم فنحن غير قادرين على الدفاع عنكم”، مبيناً أن “هذا الإعلان يهدد السلم الأهلي في العراق ويجعل الجميع يشعرون بفقدان الأمان”.
ولفت إلى أن “مستقبل العمل الصحافي مجهول إذا استمرت عمليات التصفية للصحافيين، فضلاً عن المنع والاحتجاز والاختطاف والاعتقال التي تمارسها الجهات الأمنية وغيرها، بظل منظومة قوانين متخلفة تحكم على حرية التعبير بالإعدام”.
تحت خط النار
وبعد حادثة اغتيال مراسل قناة دجلة، سادت حال من الإرباك والخوف لدى العاملين في القناة والصحافيين الذين يغطون الاحتجاجات العراقية، وكشف عدد منهم أن التهديدات الواردة إليهم مستمرة، ما أدى إلى سفر بعض العاملين وتوقف البعض الآخر عن العمل.
في السياق ذاته، قال مراسل قناة دجلة زيد الفتلاوي، إن “التهديدات مستمرة منذ اليوم الأول لتغطية التظاهرات، بعضها مباشر من خلال صفحات تابعة لجيوش إلكترونية على منصات التواصل الاجتماعي، والبعض الآخر من خلال إرسال بعض المخمورين في ساحات التظاهر، خصوصاً خلال التغطيات الليلية إذ يفتعلون المشاكل معنا ويرفعون السكاكين علينا”.
أضاف لـ “اندبندنت عربية” “هناك صفحات وهمية تطالبنا بترك القناة وعدم تغطية ما يطلقون عليه بالتظاهرات الأميركية والإسرائيلية”، مردفاً “التهديدات الواردة لنا تقول… أنتم تحت خط النار”.
وكشف الفتلاوي عن أن “بعض الأصدقاء في الأجهزة الأمنية حذرونا بأننا قد نكون مستهدفين”.
وتابع أن “القناة أبلغتنا بقطع التغطيات الليلية (الأحد) نظراً للمخاطر، ورفضت أن يقوم أي مراسل بالتغطية إذا كان يشعر بالخطر”، كاشفاً أن “مراسلين سافروا أو توقفوا عن العمل”.
وأشار الفتلاوي إلى أن “هناك غياباً تاماً للدور الحكومي في تأمين حماية الصحافيين ووصلنا خبر من وزير الداخلية بالسماح للمراسلين بحمل السلاح، وهذا خطر وكارثة ونعتبره تهديداً لنا”، مشيراً إلى أن “من واجب الدولة توفير الحماية لنا وحصر السلاح بيدها وليس إعطاء حق حمل السلاح للصحافيين”.
قوائم اغتيالات
وانتشرت في الفترة الماضية إشاعات تفيد بأن هناك قوائم تصفية بحق صحافيين وإعلاميين وناشطين في الحراك الاحتجاجي، أعدتها ميليشيات مسلحة. وكان الفنان أوس فاضل الذي يعمل ضمن كادر البرنامج الساخر “ولاية بطيخ” قد تعرض لمحاولة اغتيال نفذتها مجموعة مسلحة مجهولة في 24 ديسمبر 2019.
إلى ذلك، قال علي فاضل مقدم برنامج “ولاية بطيخ”، إن “هذه المحاولة قبل إطلاق البرنامج بأيام رسالة واضحة لعدم إطلاقه”.
أضاف لـ “اندبندنت عربية” “سمعنا بوجود قوائم اغتيالات تضم إعلاميين وصحافيين وناشطن في التظاهرات، فضلاً عن تحذيرات من أشخاص بورود أسمائنا فيها”، لافتاً إلى أنه “بعد القصف الأميركي بدأ التحريض على القتل يتزايد من قبل جيوش إلكترونية حزبية، معتبرين كل من يعارض الحكومة ويؤيد التظاهرات بأنه عميل وجوكر”.
وأشار فاضل إلى أن “الغاية من هذه التهم والتهديدات هي تأجيج المشاعر الطائفية وإيجاد مبررات للقتل”.
تابع “كنا نحضر موسماً سياسياً في البرنامج نتحدث فيه عن وجهات نظرنا في الاحتجاجات”.
فاستهداف أوس فاضل يأتي، وفقه، “لكونه فاعلاً في التظاهرات، وعلى ما يبدو أنه كان ضمن قائمة الاغتيالات وتم التعجيل بمحاولة اغتياله بعد الإعلان عن عودة البرنامج”.
وختم أن “العمل الإعلامي في العراق يعاني من غياب القانون ودعم الأجهزة الحكومية المسلحين الذين يقومون بعمليات الاغتيال”.
حرية افتراضية
ويعاني العراق من غياب التشريعات والقوانين الداعمة لحرية التعبير بشكل عام وحرية الصحافة والإعلام بشكل خاص.
ويرى مراقبون أن طبيعة النظام السياسي ووجود الميليشيات المسلحة، فضلاً عن البيئة الأمنية غير المستقرة، عوامل جعلت من حرية الصحافة افتراضية لا وجود حقيقياً لها.
وقال أستاذ الإعلام في جامعة بغداد هاشم حسن إن “بيئة العمل الصحافي في العراق وارتباطها بالبيئة الأمنية والتشريعية وطبيعة النظام السياسي ووجود الميليشيات المسلحة، أمور تدلل على أن حرية الصحافة في العراق مجرد حرية افتراضية”.
وأوضح لـ “اندبندنت عربية” أن “عمليات قتل الصحافيين أصبحت معتادة والسجلات الرسمية تتحدث عن 400 قتيل من الصحافيين منذ 2003، ومن بينهم نقيب الصحافيين السابق”.
ولفت إلى أن “الأجهزة الأمنية لم تقدم للعدالة أي متورط بهذه العمليات بل إنها تعرف بعض الجهات وتتستر عليها خوفاً من سطوتها السياسية والأمنية”.
ورجح حسن أن تتصاعد عمليات الاغتيال في الفترة المقبلة، لافتاً إلى أن “السبب يعود إلى شعور الجهات السياسية بخطر كبير من الاحتجاجات وتعتقد أن قوة تلك الاحتجاجات متأتية من نقل وسائل الإعلام لها للرأي العام المحلي والدولي”.
وأشار إلى أن “عدم وجود جسد مهني أو نقابة حقيقية تدافع عن حرية الصحافة هو السبب وراء الانتهاكات المتكررة، وهناك مؤشرات عدة إ|لى أن نقابة الصحافيين تحمي بعض الذين أساؤوا استخدام الصحافة وقاموا بعمليات ابتزاز وتهديد”.
إدانة أميركية
ودانت السفارة الأميركية في بغداد عملية الاغتيال التي تعرض لها مراسل ومصور قناة دجلة، واصفة الحادث بـ “المؤسف والجبان”، ودعت الحكومة العراقية إلى دعم حق التعبير عن الرأي ومحاسبة المتورطين بتلك الحوادث.
أضافت السفارة “اغتيال واختطاف ومضايقة وترهيب الكوادر الإعلامية ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي المؤيدين للإصلاح في العراق من قبل الجماعات المسلحة لا يمكن أن تستمر من دون عقاب”.
وأشارت إلى أن “الحكومة العراقية مسؤولة عن دعم حق العراقيين في حرية التعبير وحماية الصحافيين وضمان قدرة الناشطين المسالمين على ممارسة حقوقهم الديمقراطية من دون خوف من الانتقام، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالعثور على الجناة وتقديمهم إلى العدالة”.
وتابعت أن “حرية التعبير تعد بمثابة حجر الزاوية في المجتمعات الديمقراطية، وإن احترام هذه الحقوق والتمسك بها هو أمر أساسي لحماية الديمقراطية وتعزيزها”.
ولم يتوقف مسلسل استهداف الصحافيين والمؤسسات الإعلامية في العراق منذ اندلاع الاحتجاجات، حيث حصلت سلسلة هجمات وتهديدات طالت وسائل إعلام عدة مطلع أكتوبر إثر تغطيتها الموجة الأولى من الاحتجاجات، فيما أصدرت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية مذكرة إيقاف بحق مجموعة كبيرة من القنوات الفضائية والإذاعات في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019.
وعززت عمليات الاقتحام والاعتقالات والاغتيالات التي تطال الصحافيين العراقيين، المخاوف حيال مستقبل حرية التعبير في البلاد.
قد يهمك أيضًا
عبد المهدي يأمر بتشكيل لجنة تحقيق بعد استهداف المتظاهرين في كربلاء
الشرطة الإيرانية تفرّق المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع
أرسل تعليقك