دمشق-العراق اليوم
ما يتعرض له الأكراد السوريون على يدي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بعد تخلي الرئيس دونالد ترمب عن حمايتهم، ليس جديداً في تاريخ الأكراد، ولا في تاريخ حركتهم الموزعة على خريطة المنطقة. تاريخ من «الخيانات» التي أصابتهم من كل صوب: في سوريا، كانوا ضحية النظام البعثي الذي طحنهم باسم شعاراته العروبية، ثم استخدمهم من خلال موالاة «حزب العمال الكردستاني» الذي وجد فيه الرئيس الراحل حافظ الأسد فرصته لابتزاز دول الجوار وخصومه الدوليين. وعندما هددته العصا التركية بالغزو، ألقى بعبد الله أوجلان إلى مصير قاتم، فانتهى الرجل في أحد السجون المنعزلة في جزيرة إمرالي في بحر مرمرة. وفي العراق، لم يكن وضعهم أفضل حالاً على يدي صدام حسين الذي لم يجد حرجاً في استخدام السلاح الكيماوي ضد أطفالهم.
تعرض الأكراد لظلم تاريخي حرمهم من إقامة دولة لهم في مرحلة رسم الخرائط. وتعرضوا لظلم الأنظمة التي طالما حاولوا مهادنتها، على أمل العثور على فرصة لتحقيق حلمهم، لكن الطعنات في ظهورهم لم تكن تتأخر. وكانوا أيضاً ضحية حسابات ورهانات خاطئة في معظم الأحيان.
في الحرب الإقليمية مع تنظيم داعش، كانت القوات الكردية في طليعة المقاتلين الذين حرروا مدنهم ذات الأكثرية الكردية في الشمال السوري، لكنهم ساعدوا أيضاً في تحرير مدن عربية، مثل الرقة، إحدى «عواصم» التنظيم الإرهابي، وأطلقوا الأسرى والسبايا الإيزيديات من قبضة المجرمين «الدواعش» في سنجار، بشمال غربي العراق. وعندما انتهت «وظيفتهم» تلك، وجاءت فترة قطف الثمار، كما كانوا يعتقدون، وجدوا أنفسهم مجدداً أمام معادلة القوي والضعيف التي تحكمت دائماً بمصيرهم. وها هم الآن يواجهون مصيراً مجهولاً في الشمال السوري، فيما هم على درب التشرد من جديد.
في هذه الصفحة من «قضايا»، نسلط الضوء على وضع الأكراد في سوريا وتركيا، في ظل الحملة التي يشنها إردوغان عليهم بحجة محاربة «الإرهاب».
كان الهاجس الأكبر لدى مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه، عقب حرب التحرير التي قاموا بها بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، هو فقدان دولتهم الوليدة مزيداً من الأراضي بفعل الثورات القومية التي ساعدت على الإطاحة بالدولة العثمانية. وبدا لهم أن رابط الدين الذي قامت عليه الخلافة العثمانية لم يمنع المسلمين في مختلف أنحاء العالم من الثورة ضد الدولة، والمطالبة بالاستقلال عنها. لذا، عمد أتاتورك إلى فرض نظام قوي صارم في تركيا الحديثة، يقطع ما بين الدولة الجديدة وإرثها القديم، فجاء قرار إسقاط الخلافة، واستخدام الحروف اللاتينية، والنظام العلماني، ليصهر جميع المواطنين في الجمهورية التركية في بوتقة واحدة: ثقافة واحدة وقومية واحدة ولغة واحدة، من أجل منع أي نزعة انفصالية قائمة على العرق أو الدين.
وبدا هذا التوجه القومي مفهوماً لدى رفاق درب أتاتورك، لكنه لم يقنع أبداً الإسلاميين أو الأكراد الذين عدوا أن مؤسس الجمهورية وقائد حرب التحرير قد خدعهم، فهو لم يكشف لهم عن أي من خططه المستقبلية، عندما جال على مختلف المدن التركية، طالباً دعمهم له في حرب التحرير. وقد شارك الأكراد في هذه الحرب، ظناً منهم أن الهدف هو تحرير دولة الخلافة، وعودة حكمها، وليس قيام دولة جديدة على أنقاضها لا تعترف بوجود قومية كردية، حتى لو كان الأكراد يشكلون نحو 20 في المائة من سكانها. فقد تخلى جزء من الأكراد المتدينين عن دعم «اتفاقية سيفر»، التي كانت ترى بقيام دولة كردية، من أجل المشاركة في حرب التحرير، على أمل عودة دولة الخلافة الإسلامية، لكنهم وجدوا أنفسهم محكومين بدولة قومية ترفع العلم التركي، ولغتها الرسمية الوحيدة هي التركية. وقد قامت بعض الثورات الكردية في جنوب شرقي تركيا منذ إعلان الجمهورية الحديثة عام 1923، لكن الجيش استطاع قمعها جميعاً. وبقيت اللغة الكردية لعقود محظورة، سواء في التعليم أو حتى في الاستخدام اليومي، فلا صحف كردية ولا أغانٍ أو أشعار، وقد ساعد ذلك على صهر جزء مهم من الأكراد في المجتمع التركي، حتى بات شائعاً أن يفاجأ الناس بسياسي أو فنان أو رياضي يحظى بالشهرة، ويتضح بعد ذلك أنه من أصول كردية. فهؤلاء الذين اندمجوا في المجتمع التركي وجدوا مستقبلهم في الانتماء إليه، والتخلي عن ماضي آبائهم، خصوصاً أن معظم الأكراد الذين ولدوا وعاشوا في المدن الكبرى لم يتعلموا الكردية مطلقاً.
كان عبد الله أوجلان، زعيم «حزب العمال الكردستاني»، أول من دعا إلى استعادة الهوية الكردية، وتمييزها عن القومية التركية، حيث قاد حركة يسارية مسلحة ضد نظام الدولة والوصاية العسكرية، التي قامت بقمع جميع التوجهات الآيديولوجية خلال انقلاب عام 1980، إذ تعرض معظم زعماء الحركات السياسية والآيديولوجية إلى التعذيب المبرح، بل والقتل، في السجون خلال الانقلاب.
فوجد أوجلان في العامل القومي الكردي ذخيرة قوية من أجل إذكاء حركته للعصيان ضد النظام الحاكم والوصاية العسكرية. وقد ساعدت مظالم الانقلاب العسكري على توسيع نطاق هذه الحركة، وسرعة انتشار أفكارها وعدد المنتمين إليها.
وأدمى هذا العصيان المسلح - الذي قاده «حزب العمال الكردستاني» منذ عام 1984 - الدولة التركية، خصوصاً أن «حزب العمال» حصل على دعم سريع من عدد من الدول الإقليمية، مثل سوريا وإيران، ودول غربية وروسيا، لدرجة أن الرئيس التركي آنذاك ترغوت أوزال فكر جدياً بقبول مطالب الحزب بحكم ذاتي في جنوب شرقي تركيا، ويقول البعض إن أوزال قد دفع حياته ثمناً لهذا التوجه، حيث توفي بشكل غامض بعد أشهر من تواصله بشكل غير مباشر مع أوجلان عبر وسطاء.
كما أن التدخلات الإقليمية حالت دون توصل تركيا إلى حلول سياسية مع «الكردستاني»، بسبب إفشال هذه التدخلات محاولات وقف إطلاق النار، بدفعها عناصر من الحزب للقيام بهجمات مباغتة.
وتراجعت الحركة الكردية بشكل كبير بعد خطف الولايات المتحدة عبد الله أوجلان، وتسليمه لتركيا عام 1999، لكن التيار القومي الذي كان مسيطراً على تركيا حينها، حرمها من انتهاز فرصة هذا النصر العسكري الكبير، من أجل تقديم حل سياسي ينهي هذا النزاع. وانتظرت تركيا حتى بدأ حزب «العدالة والتنمية» مفاوضات سلام هي الأولى من نوعها مع عبد الله أوجلان في سجنه عام 2013. لكن هذه المفاوضات أيضاً باءت بالفشل بسبب المصالح السياسية الداخلية لرئيس الوزراء حينها رجب طيب إردوغان، وعودة التدخلات الإقليمية مجدداً، وبالأخص الإيرانية. وفيما كانت تركيا قد حققت انتصارات عسكرية مهمة ضد «حزب العمال الكردستاني»، بدعم أميركي في العقد الأخير، فإن الاضطرابات في سوريا سمحت للمسلحين الأكراد بأن يجدوا ملاذاً آمناً لهم، بدلاً من جبال قنديل في شمال العراق، أو جنوب شرقي تركيا.
وسياسياً، تدرك تركيا أنها من دون حل القضية الكردية لا يمكنها أن تحقق أحلامها بأن تكون قوة إقليمية أو دولية واقتصادية مؤثرة، وأنها لو كانت قد نجحت في حل قضيتها الكردية داخلياً، لكانت اليوم تتحكم في شمال سوريا وشمال العراق، وتضغط على إيران أيضاً، لو نجحت في تحويل الأكراد من عدو إلى حليف. لكن التيار القومي المسيطر على مشاعر الأتراك الذي يغذّيه بقوة الرئيس إردوغان يحول دون ذلك، لأن الثمن برأي هذا التيار، لتحويل الأكراد إلى حلفاء، هو مطالبتهم بحكم ذاتي، بما يمهّد مستقبلاً للمطالبة بدولة مستقلة تنتزع ثلث أراضي الجمهورية التركية.
وينقسم الأكراد في تركيا اليوم إلى تيارين رئيسيين: التيار الأول هو المؤيد لتوجهات «حزب العمال الكردستاني» المطالب بحكم ذاتي يشابه ما حصل عليه الأكراد في العراق؛ والتيار الثاني هو التيار الديني الذي يقبل بالوضع الحالي، ويطالب بإصلاحات ثقافية في حدود الدولة القومية التركية، وينضم إلى هؤلاء الأكراد الذين انصهروا في المجتمع التركي. فهؤلاء يقولون إن في إسطنبول اليوم أكراداً أكثر من عدد الأكراد في ديار بكر.
وعليه، فإن فكرة الحكم الذاتي تصبح غير ذات معنى هنا. وفي المقابل، يصرّ التيار الأول المدعوم بالسلاح على تقاسم السيادة مع الأتراك على أرض الجمهورية، باعتراف دستوري بوجود القومية الكردية، وعد الكردية لغة رسمية، مع حكم ذاتي في جنوب شرقي تركيا، يمكن أن ينضم بشكل كونفدرالي إلى نظيره في شمال سوريا وشمال العراق، وفق وصفة سياسية وضعها أوجلان، يرى فيها البعض ضرباً من ضروب الخيال السياسي لا أكثر.
وعليه، فإن تركيا، ومنذ عام 1999، ما زالت على مفترق طرق استراتيجي. فالغرب يدعوها للوصول إلى اتفاق مع الأكراد، وتحويل تنظيماتهم المسلحة إلى حلفاء، من أجل تحويل تركيا إلى دولة إقليمية قوية، بينما الداخل القومي يرفض ذلك، ويصر على استمرار الدولة القومية التركية. ويبدو الأكراد في الداخل منقسمين. فالأحزاب الكردية الموالية لنهج الحكم الذاتي والعمل المسلح تحصد أصوات نصف أكراد تركيا فقط، بينما يصر النصف الثاني على التصويت للأحزاب التركية بمختلف توجهاتها، وعلى رأسها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، بسبب الروابط الدينية. وما دام أن هذا الانقسام ما زال قائماً في الداخل التركي، فإنه ينعكس حتماً على علاقة أنقرة بأكراد سوريا، والتحركات الكردية الإقليمية.
فلو أن تركيا استطاعت التخلص من عقدة «الثورات القومية والدعوات إلى الانفصال»، وشكلت تحالفاً مع الأكراد بشكل عام، لبات تمددها طبيعياً في شمال سوريا، ولكانت هي الحليف الأكبر لهم، بدلاً من واشنطن. لكن ما دام أن مصلحة الرئيس إردوغان تبقى مع إذكاء التيار القومي الذي يصوت له، فإن أي نشاط كردي في محيط تركيا، خصوصاً في سوريا، سيشكل خطراً على النظام السياسي القائم في تركيا، خصوصاً أن التيار السياسي المسيطر والمهيمن على أكراد سوريا يحمل أفكار وشعارات «حزب العمال الكردستاني» نفسها، وزعيمه أوجلان، وهو يختلف عن تيارات شمال العراق السياسية البراغماتية التي تقبل بأن يبقى مستقبلها وأحلامها تحت «وصاية» الدول الإقليمية.
قد يهمك أيضا
"سورية الديمقراطية" تدعو إلى إرسال مراقبين دوليين للحفاظ على "الهدنة" في سورية
أرسل تعليقك