فنانو الرصيف في نيويورك ورثة رسامي كهوف لاسكو الفرنسية
آخر تحديث GMT05:21:44
 العراق اليوم -

يبعثوا إلى أقرانهم من البشر الآخرين بحقيقة سياسية

فنانو الرصيف في نيويورك ورثة رسامي كهوف "لاسكو" الفرنسية

 العراق اليوم -

 العراق اليوم - فنانو الرصيف في نيويورك ورثة رسامي كهوف "لاسكو" الفرنسية

كهوف لاسكو الفرنسية
نيويورك - العراق اليوم

في كهوف لاسكو الفرنسية، ومنذ نحو 17 ألف عام مضت، كان الأجداد القدامى يرسمون على جدران الكهوف أشكالاً تصور الخيول البرية، والغزلان، وجواميس البيسون، والثيران الضخمة، والقطط. وكان الغرض من تلك التصاوير أن يبعثوا إلى أقرانهم من البشر الآخرين بحقيقة سياسية حاسمة وذات أهمية بالنسبة لبقائهم على قيد الحياة: أنهم يتشاركون في بيئة المعيشة نفسها مع كائنات حية أخرى تبدو أنها تتخذ سلوكيات مختلفة عنهم كل الاختلاف.

وكان هؤلاء الفنانون القدامى يواصلون رسم هذه التصاوير وتلك الكائنات مراراً وتكراراً، ومن المحتمل أنهم كانوا معجبين بقوتها ومفتونين بأشكالها المختلفة، بيد أنهم كانوا يتصورون - بطريقة أو بأخرى - أن كل ما سوف يحل أو يحدث لتلك الكائنات والحيوانات من حولهم سوف يلحق بهم في نهاية المطاف. كان وجود جواميس البيسون والغزلان البرية في لياقتها البدنية الفائقة، وأعدادها الكبيرة، وهجراتها الجماعية المتكررة، من السلوكيات التي تشير بالإجمال إلى بدء ظهور الأوبئة أو تغيرات الطقس ذات الطبيعة الكارثية.

تحتوي الكهوف الموجودة في جنوب غربي فرنسا على نحو 15 ألف صورة ونقش ترجع في أغلبها إلى العصر الحجري القديم الأول؛ إذ لم تكن تلك الكهوف العتيقة تمثل مجرد مساحة مفتوحة لعرض المواهب الفنية المحلية القديمة بحال، بيد أنها كانت تشكل بالأساس ما يشبه الميدان العام الذي يتقاسم المجتمع المحلي من خلاله جملة من المعارف الحيوية.
ومن المهم في السياق ذاته الإشارة إلى أن هذه التصاوير الكهفية العتيقة والقصص المتنوعة التي تتلوها لا تختلف كثيراً عن المنتديات الفنية التي نشهدها في العصر الحديث؛ ونقصد بذلك فنون الشارع التي تزين واجهات المتاجر والمحال في مدينة نيويورك راهناً؛ إذ إنها تسرد لنا قصة واقعية تدور حول الحقائق السياسية الراهنة المشتركة، وعن الأشخاص الذين نعيش ونتعايش معهم ضمن المجال الاجتماعي نفسه، فضلاً عن الأنماط والأساليب التي تتمازج وتتقاطع من خلالها مختلف قصصنا المتنوعة ومصائرنا المختلفة. إذا نزلت للمشي في شوارع سوهو، أو أزقة الجانب الشرقي السفلي من مدينة نيويورك، وعبرت من خلال الطرق المزدحمة بالبشر والسيارات في بروكلين، تماماً كما كنت أفعل في الأسابيع القليلة الماضية، فسوف تشاهد كثيراً من هذه الرموز، والإشارات، والعلامات، والتي ربما تدفعك إلى التساؤل عن فحواها والغرض الحقيقي من وجودها. غير أن الأمر الذي صار جلياً للغاية من وجهة نظري هو أنه عبر الألفيات التي تفصل بين تصاوير الكهوف العتيقة ومقتل الضحية جورج فلويد، كانت الرسائل التي نشترك في البعث بها ونتشاركها فيما بيننا - والتي تعكس مختلف الظروف الاجتماعية والخلفيات السياسية من ورائها - قد باتت أكثراً تعقيداً.

يضع فنانو الشوارع في المدن الحديثة اليوم في حسبانهم الحصانة القانونية المؤهلة التي تفرض الحماية الخاصة على ضباط الشرطة، كما يعتبرون كذلك بمجريات حركة «حياة السود مهمة»، والتداعيات الخطيرة التي يفرضها واقع الديمقراطية المختل - من بين حقائق أخرى مشهودة - وذلك باستخدام لغة بصرية تصويرية متقدمة من السلوكيات الثقافية المتناقلة والتي تعكس في وضوح جمّ إشكالات المعارك الآيديولوجية بين ما هو إقليمي، وعرقي، وثقافي، عبر مختلف الكينونات المجتمعية المختلفة.

عندما نطالع صورة لكائنات رفيعة للغاية وذات بشرة خضراء داكنة ترتكز على أقدام طويلة مع فتحات طولية ضيقة لعدسات العيون، فإن أول ما تترجمه أذهاننا أننا ننظر إلى كائن فضائي خيالي. ولكن عند النظر إلى صورة لمثل الكائن نفسه وهو يرفع لافتة مكتوباً عليها: «لا أستطيع التنفس!»، فإن العقل يترجم رسالة ذات معنى مختلف تماماً، وفحواها: حتى الكائنات الفضائية الخيالية التي من المفترض أنها تقوم بزيارة كوكبنا على مسافات كونية بعيدة للغاية تُقدر بالسنوات الضوئية الهائلة، يدركون محنة المواطنين الملونين في الولايات المتحدة الأميركية، مما يشير إلى أن الأوضاع الراهنة صارت أفظع من القدرة على التحمل.

تحتوي تصاوير الشوارع في الآونة الراهنة على كثير من الرسائل واسعة الانتشار في مختلف أنحاء المدينة، وهي تعكس مشاعر شخصية المدينة المتسمة بالتعاطف، والغضب، والتحدي، والاحتجاج، وربما اليأس الشديد. وهناك أمران مهمان للغاية لا بد من ملاحظتهما بشأن تلك الرسوم والتصاوير: أنها تختلف تماماً عن الكتابة المعهودة على الجدران، والتي تتسم بالتمحور حول الذات والرتابة الممجوجة في وجهة نظري، وأنها تجسد التماثل المادي لشخصية الكاتب مع كل تكرار للعبارات نفسها على مختلف الجدران، والتي يجبرك من خلالها على الاعتقاد بوجوده ووجوب رؤيته. هذا ما تفرضه الرسالة... ليس أكثر!
أما فنانو الشوارع، فإنهم يحاولون عبر التصاوير الإشارة إلى ما وراء «الأنا» والمضي بنا قدماً إلى القضايا الجماعية ذات المجال الأوسع. ومن النقاط المهمة الأخرى أن هذه الرسوم والتصاوير، التي تأتي من الطباشير، أو الطلاء، أو الزيوت الملونة، آنيّة الوجود وسريعة الزوال. فما بين الوقت الذي سرت فيه بين شوارع هذه المناطق وبين تنبيه المصور الصحافي لأن يلتقط الصور ويوثقها كانت هناك 5 صور قد تلاشت بالفعل. وكان أحدها عبارة عن تصوير للسيدة مارشا بي. جونسون المدافعة النشطة للغاية، والتي كانت صورتها مرسومة بالطباشير على أحد الأرصفة في مدينة الخيام المؤقتة بالقرب من شارع تشامبرز قبل بضعة أسابيع مضت. ولقد فرضت قوات الشرطة إخلاء المكان تماماً من شاغليه منذ ذلك الحين.
وعلى العكس تماماً من تصاوير كهوف لاسكو الفرنسية القديمة - وهي المدرجة على قوائم مواقع التراث العالمي لدى منظمة اليونيسكو - فإن أغلب رسومات وتصاوير الشوارع في العصر الحديث لن تخضع لأي قدر من التوثيق أو الحماية أو التحول إلى مختارات ثقافية تعكس واقع الحياة المعاصرة، رغم وجوب ذلك لأهميته. إن الرسائل اللغوية والصور المشفرة المنقولة عبر هذه الواجهات الحديثة المصنوعة من الخشب الرقائقي تعبر عن الوسائل التي سوف يدرك بواسطتها المؤرخون والباحثون في المستقبل طبيعة زمننا المعاصر من أجل أن يتمكنوا من منح جيلنا اسماً مناسباً يستحقه.
هناك في شارع ووستر نجد عملاً فنياً تعاونياً غير مخطط له مسبقاً بين كل من «إيرين كو»، و«جاستن أورفيس ستايمر»، و«إي آر إكس»، و«هيليكس سي. أرماغيدون» يقول: «تكمن الحكمة في - عدم رؤية الأشياء وإنما - الرؤية من خلال الأشياء». وهذا مما يذكرنا بأنه يتعين على أولئك الذين يعيشون في هذه الأيام الراهنة - إن أرادوا حقاً البقاء على قيد الحياة - أن يتحلوا بالفراسة التي تمكنهم من قراءة ما حولهم من لافتات وعلامات تبعث بكثير من الرسائل والإشارات التي ينقلها إليهم فنانو الشوارع، والصحافيون المخضرمون، ومختلف المصادر الرقمية الحديثة، فضلاً عن وسائل الإعلام التقليدية القديمة. ويشير الأمر إلى حاجة ماسة لأن ندرك قراءة هذه الرسائل والإشارات بصورة عقلانية ونقدية مع تفادي السقوط المدوي في هاويات نظريات المؤامرة السخيفة.
من جهة أخرى، تقدم لنا تلك الرسمة التي تصور القبضة المرتفعة إلى عنان السماء من قبل ديفيد هوليير في «الجادة الرابعة» من حي بروكلين، رسالة ذات تيمة عالمية من طرف فريدريك دوغلاس تتمحور حول أميركا المولودة من جديد؛ تلك التي لا يتسع فيها المجال ولا تسود فيها مطلقاً ثقافات الجشع والآيديولوجيات العنصرية. في حين أنها تعلن في وضوح كبير أنه «ليست هناك جنسية للابتسامات أو للدموع، والفرح والأسى يتحدثان بلغة واحدة تفهمها كل الشعوب، وأنها تبعث برسالة الأخوة البشرية قبل أن تتشابك ثم تتفرع الألسنة واللغات في كل مجال وسبيل».
إننا نميل على الدوام إلى تناول وتفهم المشاق والصعوبات البشرية من خلال عدسات مفعمة بالاختلاف العرقي، والجنساني، والقومي. وتأتي هذه الرسائل والإشارات كمثل المنارة الضوئية التي تنير الكهف العتيق الذي هجره الناس منذ عهود سحيقة وما عاد يقترب من بوابته إنسان.
أخيراً؛ هناك لوحة جدارية ذات تفريعات متشعبة، وهي تحمل اسم «التناقض الحزين»، وموجودة في شارع ميرسير بمنطقة سوهو، وهي جدارية تصور «تمثال الحرية» المفعم بالدموع. وتلك الصورة؛ التي جرى تنفيذها باستخدام الألوان ذات الطبيعة التعبيرية الواضحة، هي من أعمال الفنان كاليشو أريفالو برفقة الفنان جيف روز كينغ. وأحد وجوه الصورة يعكس امرأة من السكان الأصليين في البلاد وهي ترتدي غطاء للرأس مصمماً ليعكس صورة إحدى آلهة الرومان القدامى ذات التيجان. وتحدق الصورة الجدارية في مواجهة المشاهد في استفزاز واضح للغاية، ولعلها تحاول أن تطرح سؤالاً رئيسياً مفاده: كيف سترانا؟ وماذا سنعني بالنسبة إليك؟

 وقد يهمك ايضا

بِركة زرقاء لم يلمسها البشر داخل أحد الكهوف العميقة في أميركا

شاهد: كهوف وأنفاق حفرتها "النصرة" في ريف حلب

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فنانو الرصيف في نيويورك ورثة رسامي كهوف لاسكو الفرنسية فنانو الرصيف في نيويورك ورثة رسامي كهوف لاسكو الفرنسية



أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 21:21 2021 الثلاثاء ,05 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 07:48 2016 الثلاثاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

روعة قيادة رولز رويس على الطريق لا تُضاهيها متعة شيء

GMT 17:46 2016 السبت ,22 تشرين الأول / أكتوبر

"ملوك الكاسيت" ضيوف إسعاد يونس في "صاحبة السعادة"

GMT 22:56 2018 السبت ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

الفنان محمود ياسين يغيب عن عزاء نسيبه

GMT 17:18 2018 الإثنين ,15 كانون الثاني / يناير

تعرف على اتيكيت حضور الحفلات الموسيقية والغنائيَّة

GMT 01:54 2017 الثلاثاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

تقرير جديد يكشف أن ميلانيا ترامب لم تطمح لدور السيدة الأولى

GMT 01:37 2016 الأربعاء ,15 حزيران / يونيو

ماغي بوغصن تراهن على وصول فكرة "يا ريت" للمشاهدين

GMT 04:03 2017 الخميس ,13 إبريل / نيسان

الفيلة تدرك أن جسدها العملاق يمثل عقبة كبيرة

GMT 11:03 2014 الجمعة ,24 تشرين الأول / أكتوبر

"مغارة الشموع" كهف مليء بالأسرار تحتضنه القدس

GMT 05:25 2019 الثلاثاء ,22 كانون الثاني / يناير

الكشف عن سيارة "هيونداي" i30 Fastback N

GMT 21:06 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

طرح تذاكر السوبر الإيطالي على "موقع حراج"

GMT 15:09 2018 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

السنغالي جايا يستعد لبدء المهمة مع نادي الصفاء اللبناني

GMT 03:04 2018 الجمعة ,14 كانون الأول / ديسمبر

تكليف صالح آل مسلم برئاسة نادي نجران لمدة سنة

GMT 10:58 2018 الثلاثاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

تعاون بين أمانتي عسير و الرياض في مجال الخبرات

GMT 21:30 2018 الثلاثاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

وفاة الشيف قدري مُقدِّم برنامج "سفرة دايمة" بشكل مُفاجئ

GMT 17:58 2018 الجمعة ,19 تشرين الأول / أكتوبر

قطر تُعمّق الشرخ مع محيطها العربي

GMT 15:41 2018 الثلاثاء ,09 تشرين الأول / أكتوبر

أنباء عن زواج أحمد فلوكس وهنا شيحة بداية العام

GMT 22:52 2018 الإثنين ,08 تشرين الأول / أكتوبر

أجزاء مهمة بالسيارة يجب فحصها وصيانتها كل 6 أشهر

GMT 07:50 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مكافأة غريبة تقدمها شركة "تسلا" لملاك سياراتها
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq