ما يزال العراق يحتل موقعاً متقدماً بين الدول الأكثر فساداً في العالم بالرغم من العديد من العناصر التي كان يجب أن تخرج العراق من هذه الفئة والتي من بينها تدهور الوضع الاقتصادي، وتفاقم العجز المالي، في وقت تبرز مكامن الفساد ومزاريبه من التوظيف الحكومي الى مافيات المعابر الحدودية وغيرها.
وبحسب تقارير نشرتها منظمة الشفافية الدولية فإن العراق احتل مراكز متقدمة بالفساد، وقدر حجم الهدر العام منذ 2003 بمقدار 300 مليار دولار وهي حصيلة سنوات متعاقبة من حكومات نخرت بالعراق واصبح دولة تستنجد بالقروض لحل مشاكلها المالية، في حين تشير تقديرات غير رسمية الى ان الاموال المختلسة والمهدورة في ملف المنافذ الحدودية وحدها ربما تصل الى ان نحو 100 مليار دولار منذ العام 2003 وحتى الآن.
وليس غريباً أن العراقيين في حيرة من أمرهم لأن خطوات ملموسة لم تتخذ بشكل فاعل لإخراجه من فئة البلدان الأكثر فسادا وهو يئن تحت وطأة عجز مالي هائل، وديون خارجية بعشرات مليارات الدولارات فيما فاقم وباء كورونا العوز المالي بشكل خطير حيث تشير التقديرات إلى أن العجز يصل إلى أكثر من 40 مليار دولار، بينما تبلغ الديون الخارجية نحو 23 مليار دولار عدا الديون المعلقة لما قبل 2003 البالغة 40.9 مليارات دولار.
ولهذا فان التساؤل المنطقي بين العراقيين لماذا لم تبذل جهود حقيقية لمكافحة الفساد انقاذا للموقف الخطير الذي يتأرجح فيه العراق على حافة هاوية برغم موارده النفطية الكبيرة، وبرغم تأكيدات عضو المجلس الاعلى لمكافحة الفساد في العراق سعيد ياسين موسى لوكالة شفق نيوز مؤخرا حول وجود "اكثر من 500 مليار دولار من الاموال المنهوبة في العراق" لا يجري العمل على استردادها، وهو مبلغ قادر على تأمين تمويل ميزانية العراق لخمسة أعوام مقبلة.
وذكر تقرير منظمة الشفافية الدولية أنّ كل من العراق يحتل المرتبة 160 بين 180 دولة حسب المؤشر، ما يعني أنه من بين الدول الأكثر فسادا في العالم، التي تتصدرها جنوب السودان والصومال. وعلى الرغم من ان العراق حقق بعد التقدم في تقييمه السنوي، لكن ذلك لا يبدو كافيا لأن الاوضاع بالغة الخطورة، خاصة في التعامل مع تداعيات جائحة كورونا.
وتكشف التقارير عن تفشي الفساد في سائر مراحل الاستجابة للجائحة، وأن الدول التي تحقق أداءً جيداً على مؤشر الشفافية، تستثمر بشكل أكبر في الرعاية الصحية، وهي أيضا أكثر قدرة على توفير تغطية شاملة وأقل عرضة لانتهاك القواعد الديمقراطية أو سيادة القانون.
وعلى الرغم من المكاسب الصغيرة التي حققها المجتمع المدني في العقد الماضي نحو بناء قوانين أقوى وأكثر استدامة لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية، فإن أزمة كورونا والتدابير الطارئة الناتجة عنها ألغت هذه الجهود بشكل أساسي، ما أعاد المنطقة سنوات إلى الوراء. وما يزال الفساد السياسي أيضاً يمثل تحدياً في جميع أنحاء المنطقة. ففي العراق مثلا، يحرم الفساد المترسخ في النظام الناس من حقوقهم الأساسية، بما في ذلك الحصول على مياه الشرب الصالحة للشرب، والرعاية الصحية، والكهرباء، وفرص العمل والبنية التحتية الملائمة.
وقال رئيس تحالف الشفافية في اقليم كوردستان العراق المحامي خالد النقشبندي لوكالة شفق نيوز، إن "نجاح منظمة الشفافية الدولية تكمُن في وضع موضوع الفساد على قائمة أجندة العالم، مضيفا أن أكثر من ثلثي البلدان سجلت أقل من 50 درجة على المؤشر الذي يستند المؤشر إلى مقياس (صفر- 100) حيث يكون صفراً هو أعلى معدلات الفساد و100 هو انعدام وجود فساد على الإطلاق، ويرصد المنظمة مدى انتشار الرشوة والاختلاس والمحسوبية في البلدان المعنية.
وبحسب تقرير العام ٢٠٢٠، الذي ترجمته وكالة شفق نيوز، فإن دول الدنمارك ونيوزيلندا وفنلندا وسنغافورة والسويد وسويسرا، جاءت في رأس قائمة الدول العديمة او شبه عديمة الفساد بمعنى ان كنت تبحث عن الشفافية والحكم الرشيد وغياب الفساد فإنها سمات البلدان التي ذكرت، في حين ان جنوب السودان والصومال جاءت في أسفل المؤشر.
وسبق ان حدد محللون وخبراء تحدثت اليهم وكالة شفق نيوز العديد من مكامن وأسباب الفساد المستشري في العراق، من ترابط الطائفية والنظام والسياسي الذي يتسبب بهدر موارد حيوية، ولوائح "الموظفين الأشباح" الذين يتلقون رواتب حكومية لا يستحقونها، والتوظيف الحزبي في القطاعات والوزارات الحكومية التي تضم اكثر من 7 ملايين موظف وفق نظام المحاصصة القائم، على حساب الخبرات والتكنوقراط الاكفأ، وتستهلك رواتبهم اكثر من نصف ميزانية الدولة.
ولعل من أكبر مظاهر الفساد في العراق المنافذ الحدودية مع السعودية وايران وتركيا وسوريا والاردن والكويت، الى جانب المعابر الجوية، من ضرائب ورسوم جمركية وغيرها، والتي قدر خبراء انها تهدر سنويا نحو عشرة مليارات دولار، ولا تدخل الى خزائن الدولة منها سوى بضعة ملايين من الدولارات، مثلما سبق لعضو اللجنة المالية النيابية جمال كوجر أن أكد لشفق نيوز.
وخلال لقائه مع شخصيات اعلامية في حزيران/يونيو 2020، قال رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي "ستكون هناك حملة لإعادة الاعتبار الى المنافذ، وسنحارب أشباحا". وأوضح ان "هناك خسائر بمليارات الدولارات سنويا في المنافذ، وإن هناك عصابات وجماعات وقطّاع طرق وأصحاب نفوذ، هم من يسيطرون في بعض الأحيان على المنافذ وعلى حساب الدولة".
ويدرك الكاظمي، كما العديد من العراقيين بمن فيهم انصار التظاهرات التي خرجت ايضا ضد الفساد، ان مشكلات كهذه ليست بنيوية فحسب وإنما تكمن في الثقافة، وان امام الاعلام تحد كبير للاعتماد على الأرقام والبيانات المقنعة لتوضيح مستوى الفساد وتأثيره السلبي وفضحه.
رغم كل ذلك هناك تشكيك عام في اوساط العراقيين في جدية القضاء العراقي والقوى السياسية في مكافحة الفساد ومحاسبة سارقي المال العام واستعادته، الا ان العراق حقق بعض التقدم في خطواته، وان كانت ضئيلة في المؤشر وهو ما يساعد هذا البلد في إجراء مراجعات قانونية للتشريعات وكذلك توجيه المؤسسات التنفيذية، وخاصةً بعد المطالبات الشعبية في بغداد والجنوب بما فيها المطالبات الشعبية في السليمانية في اقليم كوردستان العراق اذ تخطي الاخيرة خطواتها باتجاه تقليص حجم الفساد وموائمة حساباتها مع السلطات الإتحادية في الموازنة الاتحادية وتنظيم سجلاتها الوظيفية والمالية.
وأكد مدير المنظمة الاقتصادية الكوردستانية (كيدو) حسام البرزنجي لوكالة شفق نيوز"ان مشكلة الفساد في العراق معقدة جدا لأن آليات مكافحة الفساد لا ترقى الى مستوى مصادر الفساد الكثيرة والمتشعبة، حيث الجهات المشاركة والمتورطة في الفساد تمتد من بعض الأحزاب المشاركة في السلطة و المناصب الحكومية المتنفذة والمليشيات المدعومة من الجهات الاجنبية".
أما القوى المكافحة للفساد فهي بحسب مدير منظمة "كيدو"، "محدودة في المركز وكذلك في إقليم كوردستان العراق"، مضيفا "صحيح هناك التزام بمعايير الشفافية الدولية في المركز بخصوص عمليات البيع والعقود لكن الفساد يكمن في سوء التعامل مع الايرادات المتمثلة بهدر الأموال والمشاريع الوهمية وتبيض الاموال والرشوة مما خلق الفقر بنسبة 38% والبطالة بأكثر من 20% وارتفاع معدلات الجريمة وضعف الخدمات العامة حيث ما تزال توفير الطاقة الكهربائية للمواطنين لا تتجاوز 8 ساعات بشكلٍ عام رغم هدر مليارات من الدولارات كذلك هدر وعدم استثمار الغاز المحلي و شراء الغاز الايراني بما يعادل 5 مليارات دولار سنويا".
منذ مدة، نشر "معهد بروكينغز" الأميركي تقريرا يحذر فيه من ان العراق ربما يكون مصابا بلعنة ثروته من خلال مزيج الفساد الحكومي ومرض قطاعه الخاص، وان هذه تشكل وصفة للسقوط في النزاعات والاضطراب الاقتصادي.
وهذا ما يجعل السؤال مطروحا الآن عما اذا كان ما يزال أمام العراق فرصة زمنية ملائمة لإعلان حرب حقيقية على الفساد قبل انتخاباته بعد تسعة شهور من الان، لعلها تخرجه من لائحة منظمة الشفافية الدولية للدول الأكثر فسادا، الى مرتبة تليق به.
وقد يهمك أيضا
حكومة كردستان العراق ترفع آجور الكهرباء على المواطنين 20%
الشرطة المجتمعية تتدخل لإنقاذ سيدة عربية من تعنيف زوجها العراقي
أرسل تعليقك