فوضى التظاهرات في المحافظات العراقية

وعلى عكس المتوقع، وبينما تتصاعد فعاليات المتظاهرين المطالبين بالإصلاحات ومحاربة الفساد، التي ينشغل العراقيون بها، فإن مافيات الفساد استثمرت الحدث لممارسة الضغوط على الحكومة، لانتزاع المزيد من الامتيازات والمصالح الطفيلية لها على حساب مصالح الشعب وتضحياته.

وقد كشفت “رابطة الشفافية” (منظمة مجتمع مدني مستقلة) استغلال مافيات الفساد، فوضى التظاهرات وانشغال الناس بها، لتمرير صفقات مشبوهة كبيرة في مجال الطاقة. وأشارت الرابطة إلى قيام لجنة الطاقة في مجلس الوزراء الحالي، بتمرير العديد من الصفقات المشبوهة الخاصة بالطاقة مؤخرا، ما جعل بعض القوى السياسية تحصل على عوائد مالية خيالية، حسب وصفها، داعية مجلس النواب وهيئة النزاهة (الحكومية) إلى مراجعة كافة العقود التي مررتها لجنة الطاقة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة.

ومن جانبها، أعلنت النائبة ماجدة التميمي، عن نموذج آخر للفساد المالي مؤخرا، تمثل في توقيع اتفاقيات وعقود فيها شبهات فساد وهدر وإضرار بالمال العام في شركة الخطوط الجوية العراقية التابعة لوزارة النقل. وقالت التميمي في بيان لها “لاحظنا في الفترة الأخيرة وللأسف الشديد استغلال الظروف الحالية التي يمر بها بلدنا العزيز لتمرير وتوقيع عقود واتفاقيات فيها شبهات فساد”. ودعت إلى “اعتبار العقود والاتفاقيات جميعها لاغية بعد تاريخ 1/10/2019 علما أننا نمتلك الكثير من التفاصيل التي سنتخذ بها كافة الإجراءات القانونية ونطرحها على الرأي العام عاجلا” حسب قولها.

أما القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني ملا بختيار، فإنه أقر أن “سبب اندلاع التظاهرات هو استشراء الفساد المالي لدى الأحزاب والطبقة الحاكمة” مؤكدا “أن جيل مواقع التواصل الاجتماعي الحالي يعاني من الجوع والعوز المادي، و40 في المئة منه عاطل عن العمل وهو ما دفعه إلى الاحتجاج ضد الحكومة الاتحادية”. وكشف في جلسة حوارية في السليمانية شمال العراق “أن قرابة 368 مليار دولار سُرقت من العراق وتم إيداعها في البنوك في بريطانيا، وأن بعض التقارير تتحدث عن ان السرقات تصل إلى 600 مليار دولار مما أدى إلى تفشي الفقر والعوز في العراق”.

وتحدثت المصادر الحكومية والمراقبون، عن خسائر بمليارات الدولارات بسبب الإجراءات الحكومية التي تم اتخاذها لقمع التظاهرات، ومنها قطع خدمة الإنترنت عن مدن العراق التي تسببت بخسائر كبيرة للمؤسسات الحكومية والخاصة والمواطنين، إضافة إلى الخسائر الناجمة عن إغلاق المتظاهرين لبعض الموانئ وحقول النفط جنوب العراق، حيث أعلن رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، أن خسائر بالمليارات يتكبدها الاقتصاد العراقي جراء استمرار الانتفاضة منذ شهر ونصف.

التعيينات في المناصب الخاصة

وفي خضم تداعيات الانتفاضة، عاد الحديث عن قضية التعيينات في آلاف الوظائف الحكومية العليا الشاغرة منذ 2003 والتي تعد من المواضيع الخلافية الشائكة بين الأحزاب التي تصر على اتباع آلية المحاصصة في توزيعها أي تقسيمها على الأحزاب الحاكمة بحجة مراعاة التقسيمات الطائفية والقومية للمكونات.

ومنذ أكثر من 15 عاما تدار نحو 4000 من الوظائف الحكومية العليا الشاغرة، كوكلاء الوزارات والمدراء العامين ورؤساء الهيئات المستقلة وكبار القادة العسكريين ورؤساء الجامعات وغيرها من المناصب الرفيعة، بالوكالة بسبب صراع الأحزاب عليها، لكونها بابا واسعا للنفوذ السياسي ونهب المال العام، ما أدى إلى تعطل عمل الحكومة وفشل اداءها الإداري. ورغم الحديث عن اتفاق أحزاب السلطة على تقاسمها فيما بينها إلا أن الخلافات حولها ما زالت مستمرة.

ومع انشغال الناس هذه الأيام بمعمعة الانتفاضة، تحدثت قوى سياسية ووسائل إعلام مختلفة، عن قيام الحكومة بتعيين عشرات من المدراء العامين في دوائر الدولة من دون طرح اسماءهم على البرلمان وفق السياقات القانونية. وقد انتقدت تلك القوى قيام حكومة عادل عبد المهدي خلال التظاهرات، بإصدار أوامر تعيين 95 شخصا في المناصب الخاصة (العليا) من دون أخذ رأي البرلمان رغم كون الكثير من الأسماء عليها شبهات فساد أو انها مرتبطة بأحزاب متنفذة في السلطة.

وفي الوقت الذي أعلن فيه القيادي في ائتلاف النصرعلي السنيد، أن “هناك جهات تريد السيطرة على ملف الدرجات الخاصة، من أجل إنشاء دولة عميقة أعمق من الدولة العميقة الحالية” محذرا من “جعل مؤسسات الدولة ومصالح المواطنين في يد جهات سياسية متنفذة” وداعيا إلى تعيين ذوي الكفاءة في تلك المناصب بعيدا عن سطوة الأحزاب، فإن القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني غياث السورجي، كشف إن “المفاوضات بين الكتل السياسية والحكومة حسمت حصة كل كتلة سياسية من الدرجات الخاصة والمناصب بالوكالة” مبينا ان “حصة الأحزاب الكردية ستكون نحو 400 منصب بدرجة مدير عام ومستشار ووكيل وزير ورئيس هيئة ومناصب أخرى”.

وأشار سياسيون عبر القنوات الفضائية المحلية وشبكات التواصل الاجتماعي، إلى أن بعض الإجراءات الحكومية لترضية المحتجين كالتعيينات في الوظائف الحكومية وتوزيع الأراضي السكنية على المواطنين، استغلتها الأحزاب السياسية لصالحها، حيث استولت على جزء كبير من الوظائف الشاغرة لزرع أعوانها وحلفاءها في الدوائر الأمنية والاقتصادية بحجة الاستجابة لمطالب المحتجين العاطلين عن العمل، كما يستغل بعض المسؤولين توزيع الأراضي السكنية على المواطنين لغرض الابتزاز المالي.

مافيات الفساد

وعلى وقع تطورات الانتفاضة في العراق، هدد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بفرض عقوبات على “المسؤولين العراقيين الذين يسرقون ثروات بلادهم وعلى الذين اشتركوا في قتل المحتجين”. وقال للصحافيين في وزارة الخارجية “لن نقف مكتوفي الأيدي بينما يتسبب المسؤولون الفاسدون في معاناة العراقيين” مبينا أن “الولايات المتحدة ستستخدم السلطة القانونية التي تملكها لفرض عقوبات على أفراد فاسدين يسرقون ثروات العراقيين وأولئك الذين يقتلون ويصيبون المحتجين السلميين”.

ويأتي الموقف الأمريكي في إطار ممارسة الضغوط على الحكومة العراقية إضافة إلى كونه جزء من الصراع الإيراني الأمريكي على الساحة العراقية.

وفي السياق ذاته، ووسط إصرار أحزاب السلطة على اتباع اسلوب العنف في مواجهة الانتفاضة الشعبية العارمة، وعدم جديتها في إجراء إصلاحات حقيقية مقنعة للمحتجين، فقد وجدت الأمم المتحدة أيضا نفسها مضطرة إلى الدخول على خط أزمة الانتفاضة للحد من سخط الشارع على الحكومة والفاسدين وايقاف المزيد من التداعيات والمخاطر على الأوضاع في العراق. وفي هذا المجال، اقترحت بعثة الأمم المتحدة في العراق “يونامي” مبادرة لحل الأزمة عارضة مجموعة من المقترحات السياسية والاقتصادية والخدمية، منها أن “تبادر النخبة السياسية إلى كشف مصالحها المالية داخل وخارج البلاد وان تلغي الأحزاب لجانها الاقتصادية” التي تنهب البلد، كما اقترحت إحالة ملفات الفساد إلى القضاء لمحاكمة المسؤولين في كافة مستويات الدولة، إلى جانب سن قوانين من بينها على سبيل المثال قوانين “من أين لك هذا؟” و”الضمان الاجتماعي” و”حل أزمة السكن” و”النفط والغاز”.

وكانت رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت، أكدت إن “تعطّل البنية التحتية الحيوية مصدر قلق بالغ، وإن حماية المرافق العامة مسؤولية الجميع” وأضافت في تغريدة أن “التهديدات أو إغلاق الطرق إلى المنشآت النفطية يسبب خسائر بالمليارات” معتبرة أن ذلك “يضر باقتصاد العراق، ويقوض تلبية المطالب المشروعة للمتظاهرين”.

وهكذا يؤكد السلوك الانتهازي لمافيات الفساد المالي المستقوية بالأحزاب المتنفذة في العراق انها تتعامل مع البلد كبقرة حلوب مطلوب نهبها باستمرار، وأنها تستغل كل الظروف والمستجدات من أجل تحقيق المزيد من المكاسب على حساب معاناة وحقوق الشعب المسلوبة، وهو ما عزز مطالب الانتفاضة الحالية وتمسكها بضرورة الإصلاح الجذري وقلع جميع الأحزاب ومافيات الفساد التابعة لها وإنهاء هيمنتها على السلطة في البلاد.

قد يهمك أيضًا 

مافيات الفساد تستغل الانتفاضة الشعبية لمزيد من نهب ثروات ومقدرات العراق

عمليات مشتركة مع "قسد" لمكافحة المتطرّفين ومقتل زعيم "داعش" الإنجاز الأكبر