الجزائر – سفيان سي يوسف
في مرتفعات جبال منطقة تامالوس، في محافظة سكيكدة الواقعة على نحو 450 كلم شرق العاصمة الجزائرية، وفي الحدود مع ولاية جيجل (دائرة الميلية)، تقع غابات "أغبالة وعين قشرة"، القاعدة الخلفية للدعم اللوجيستي والمعبر الآمن لقوافل المجاهدين زمن الثورة التحريرية الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي. غير أن هذه المنطقة لم تعد كذلك اليوم، لقد تحولت خلال العامين الماضيين إلى أهم معقل لتنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" ولزعيمه عبد المالك دروكدال المكنى "أبو مصعب عبد الودود"، الذي فرّ من منطقة القبائل عقب العمليات النوعية والضربات التي وجهتها قوات الجيش الجزائري لهذا التنظيم الارهابي بكل من البويرة، تيزي وزو وبومرداس.
ووصول "العرب اليوم" إلى أعالي جبال السلسلة الجبلية الرابطة بين محافظتي سكيكدة وجيجل، لم يكن سهلا، فتضاريس المنطقة غاية في التعقيد والتشعب، أشجار كثيفة ومسالك جبلية وعرة تنحني وتنخفض وترتفع، مميزات جغرافية تستفيد منها فلول المجموعات الارهابية للتحصن فيها. 3 أيام كاملة لم تكن كافية للإحاطة بكل ما تختزنه هذه المنطقة من أسرار، لكن مرافقة أحد رجال الباتروت (من الذين انخرطوا طواعية في مكافحة الإرهاب مع الجيش)، وهو ابن المنطقة، سهّل علينا المهمة.
أغبالة... بوابة معقل الإرهابيين بولايات الشرق
كانت البداية بزيارة منطقة "عين قشرة" أو "أغبالة" مثلما يفضّل سكان المنطقة تسميتها، والواقعة في أقصى غرب محافظة سكيكدة بنحو 70 كلم عن عاصمة الولاية، والحدودية مع دائرة الميلية التابعة لجيجل، والتي كانت تقطنها المئات من عائلات المزارعين قبل أن تهجرها في السنوات الأخيرة بسبب عودة الإرهاب إليها من جديدويقول بشأنها مرافقنا الذي رفض ذكر اسمه لدواع أمنية، إنها فرّت مجددا قبل نحو ثلاث سنوات فقط من منازلها بعد أن هجرتها طيلة عشرية كاملة بسبب تدهور الوضع الأمني هناك، ويلفت أن "أغبالة" تعد بمثابة بوابة معقل الجماعات الإرهابية القادمة من بجاية مرورا بجيجل، خصوصا وأن باقي القرى الواقعة بعدها، لا تحوز على مراكز متقدمة للحرس البلدي (شرطة القرى) ولا على ثكنات للجيش.
"وازان"... مرتع لتنظيم القاعدة بعد سحب الحرس البلدي
وجزم عشرات المواطنين ممن تحدث إليهم "العرب اليوم" في منطقة "عين قشرة" الجبلية الواقعة عند سفوح غابات "وازان" المتاخمة لجبال جيجل، أن الجماعات الإرهابية باتت تتحرك بطريقة شبه يومية في مختلف الطرق الجبلية وبأريحية تامة بلا خوف أو توجس من قوات الأمن أو الجيش على خلفية قرار السلطات المختصة سحب مراكز الحرس البلدي من هذه المنطقة.
ويقول مصدر أمني محلي لـ"العرب اليوم" بشأن "وازان" التي قتل فيها العشرات من الجنود في السنوات الأخيرة، إن الجيش أطلق نهاية 2014 عملية تمشيط كبيرة بهذه المنطقة إلا أنه لم يتمكن من الوصول إليها بسبب وعرة تضاريسها وكثافة أشجار البلوط وأشجار "الزان" مما صعّب من نجاح تلك العملية العسكرية التي اسفرت عن بتر أرجل 4 عسكريين حاولوا الوصول آنذاك إلى محطة لتوليد الكهرباء.
تنظيم القاعدة يستولي على محطة كهربائية والجيش يسعى لاسترجاعها
ويضيف محدثنا أن محطة توليد الكهرباء هذه، تقع في أعالي "وازان" تم تشييدها من طرف الدولة سنة 1978، قبل أن يستولي عليها الجيش الاسلامي للانقاذ بقيادة مدني مزراق في التسعينات، حيث كانت هذه المنطقة احدى مراكزه المهمة، قبل أن تستولي عليها منذ نحو سنتين المجموعات الارهابية التابعة لتنظيم القاعدة.
ويقول ذات المصدر إن الجماعات المسلحة تستعمل هذه المحطة الكهربائية لشحن بطاريات الهواتف النقالة ولشحن ورشات مختصة في صناعة القنابل، حيث يحاول الجيش الوصول إلى تلك المحطة لاسترجاعها عبر عمليات تمشيط دقيقة، كون أن المنطقة ملغمة بالقنابل التقليدية و سبق أن تم بتر أرجل 4 جنود غير بعيد عن تلك المحطة بسبب تلك القنابل التي تم غرسها بمحيطها.
رصد مكالمات هاتفية لدروكدال وحاشيته في أعالي "وازان"
وتشير معلومات حصل عليها "العرب اليوم" من مصادر أمنية ذات صلة بمكافحة الإرهاب، أن الأمن رصد قبل مدة مكالمات هاتفية تم التدقيق فيها، تعود لزعيم تنظيم القاعدة المغاربي عبد المالك دروكدال المكنى "أبو مصعب عبد الودود" وأخرى لعدد من أمرائه وكذا الإرهابي المكنى بـ"يوسف" والمنحدر من الأخضرية بالبويرة وهو المكلّف بحسب تصريحات لإرهابيين تائبين بحماية دروكدال.وتعتقد مصادرنا أن الأخير يتواجد بهذه المنطقة الحدودية التابعة لسكيكدة والقريبة جدا من جيجل، وتفيد مصادرنا، أن جبال "أغبالة" بصفة عامة أصبحت معقلا رئيسيا لزعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وعناصره، حيث دأب في السنتين الماضيتين على تسيير نشاطاته الإرهابية وعقد اجتماعات مع أمراء التنظيم انطلاقا من هذه المنطقة.
زعيم تنظيم القاعدة المغاربي يفلت من قبضة الجيش
وتمكن زعيم تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" عبد المالك دروكدال من الافلات من قبضة قوات الجيش الوطني الشعبي خلال العام 2015، والتي تباشر عمليات تمشيط بمنطقة "وازان" بأعالي عين قشرة، بحسب ما أفاد به مصدر أمني، موضحا أن الجيش رصد مؤخرا تحركات لنحو 20 إرهابيا يحتمل أن يكون الارهابي عبد المالك دروكدال ضمنهم، إلا أن شساعة الجبال ووعرة تضاريسها سمح لهذه المجموعة الارهابية بالفرار.
ويقول مصدرنا أن جبال غرب سكيكدة تعد من أصعب المناطق في الجزائر، كونها تمتد على طول شريط جبلي وغابي يربط بين العديد من الولايات يصعب على قوات الجيش التحكم فيه، موضحا أن المجموعات الارهابية اعتادت على سلوك السلسلة الجبلية الرابطة بين جيجل انطلاقا من منطقة "بني بلعيد بدائرة العنصر مرورا بعين قشرة بسكيكدة وصولا إلى جبال الركنية بقالمة و جبال المرسى وواد الجذري وسرايدي التابعة لولاية عنابة.
السلطة ارتكبت خطأ فادحا بسحب الحرس البلدي
ويشرح المقاوم والناطق الرسمي باسم "الحركة الوطنية لقضية الحرس البلدي وضحايا الإرهاب"، لحلو عليوات، في حديث لـــ"العرب اليوم"، أسباب عودة الإرهاب مجددا إلى مختلف السلاسل الجبلية بالوطن، ويعددّ جملة من المعطيات على رأسها غياب الأمن بصفة شبه كلية منذ أكثر من 3 سنوات، ويوضّح أن السلطات المختصة قامت خلال 2013 بسحب مختلف المراكز المتقدمة للحرس البلدي (شرطة القرى) التي كانت متواجدة بقلب الجبال قبل تقليصها تدريجيا و حل الجهاز الذي كان يضم نحو 84 ألف عنصر من طرف وزارة الداخلية، ما سمح حسبه، للجماعات الإرهابية باستغلال هذا الفراغ الأمني فضلا عن عدم وجود ثكنات عسكرية بأعالي هذه المناطق.
ويوضح لحلو عليوات، الذي قاد انتفاضة الحرس البلدي في العاصمة ومفاوضات هذا الجهاز في 2014 مع الوزير الاول عبد المالك سلال، أن الحرس البلدي لعب دورا مهما في مكافحة الإرهاب و كان بمثابة "عيون الجيش"، كون أن كل عناصره من أبناء تلك القرى، ما مكّنهم من الحصول على المعلومات بشأن تحركات الإرهابيين للثقة التي يحوزونها عند المواطنين، ويشدد على أن سحب تلك المراكز الأمنية كان خطأ فادحا ارتكبته السلطة.
مخاوف بشأن تعشش الارهاب مجددا بجبال سكيكدة وجيجل
ويبدي المقاوم لحلو عليوات، الذي كافح الإرهاب لأكثر من 20 عاما، مخاوفه من تعشش الارهاب مجددا في هذه المناطق الجبلية التي تعيش على وقع فراغ أمني كبير، وقال "نحتمل بأن الارهاب سيعود بقوة في يوم من الأيام، لان السلطات سهّلت بحلها سلك الحرس البلدي، تحركات هؤلاء الارهابيين وباتوا ينشطون ويتحركون في قمم هذه الجبال مثلما يريدون.
بني فرقان.. عائلات تقاوم الارهاب على طريقتها والسلطات تتجاهلها
تعد منطقة "بني فرقان" التاريخية الواقعة بأعالي دائرة المليلية التابعة لولاية جيجل والواقعة على نحو 7 كلم فقط من منطقة "أغبالة" بسكيكدة، من بين أهم المعاقل والقواعد الخلفية التي استغلها المجاهدون إبان الثورة التحريرية، بحسب إحدى العائلات التي زارها "العرب اليوم"، والتي قررت العودة إلى هذه القرية رغم ما خلفه الارهاب بها سنوات العشرية السوداء.
وقررت هذه العائلات أن تتحدى الجماعات الارهابية واستقرت قبل نحو سنة فقط بهذه القرية الساحلية والحدودية مع سكيكدة رغم عدم وجود التيار الكهربائي بها، والذي أتلفته المجموعات الارهابية في التسعينيات، ويقول سكان القرية إن هذه المنطقة جاهد فيها كل من الرئيس الجزائري الراحل محمد بوضياف وعلي كافي وبن طوبال والكثير من قيادات الثورة التحريرية، والتي هجرها مواطنوها بسبب التهديدات الإرهابية التي تلقتها قبل سنوات من طرف الارهاب.ويتذكر أحد سكان المنطقة بعض المجازر الارهابية التي ارتكبت بها على غرار مقتل 22 جنديا سنة 1994 بالمكان المسمى "أولاد العربي" وإتلاف مصنع عمومي ومقتل 7 دركيين سنة 1997.
وتأسفت هذه العائلات التي قالت إنها تحدّت الإرهاب بصدور عارية، بقرارها العودة إلى هذه المنطقة، دون أن تلتفت إليها السلطات المحلية أو تساعدها للاستقرار بها، حيث اصطدمت هذه العائلات بعدة عوامل معيقة للعيش بالقرية على غرار عدم وجود التيار الكهربائي وتعبيد الطرق المؤدية إليها وهو ما يحد من رغبة باقي السكان الذين هجروا المنطقة للعودة إليها مجددا.السكان المعنيون والمقيمون بقرية "بني فرقان"، وجهوا عبر "العرب اليوم" نداء مستعجلا للسلطات الولائية بغرض اتخاذ تدابير استعجالية لتوصيل شبكة الكهرباء التي لا تبعد عن قريتهم التاريخية سوى 5 كلم وكذا ضرورة تعبيد الطريق قصد تشجيع هذه العائلات التي قررت مواجهة الارهاب على طريقتها بالاستقرار بها.