القاهرة - العراق اليوم
تعكس لوحاته خدوش الزمن على جدران الحياة، حيث لا شيء يبقى كما هو، إنما هناك دومًا تغييرات جذرية ومستمرة ومثيرة للشجن والحزن، لذلك يستدعي الفنان التشكيلي المصري أيمن السمري، على مسطح لوحاته، ما تبقى من جمال الماضي وأصالته، لا لمجرد تقديم منتج فني يعبر عن الهوية والذات فقط، لكن لكي يلتقي المشاهد بمفردات كانت سببًا رئيسيًا لسعادته وإحساسه بالسلام الداخلي، وهي مفردات، وفق السمري: "تركناها طواعية أو إغواء من الحياة المدنية بكل ما تتركه الأخيرة من ضجيج وصراعات تتلاطم حولنا وداخلنا".
وعبر لوحات مكشوطة ومخدوشة ومحفورة بفعل الزمن ومتغيراته يضمها معرضه المقام الآن بغاليري "بيكاسو إيست" بمنطقة التجمع الخامس (شرق القاهرة)، تحت عنوان "لا شيء يبقى"، يأخذنا الفنان أيمن السمري من جديد إلى الحياة البسيطة الفطرية "قبل أن يمارس الزمن دوره الطاغي في طمس الكثير من ملامح إرثنا وأصولنا الغالية تاركًا بدلًا منها بصماته الواضحة على النفوس والأمكنة"، على حد تعبيره.
إلا أنه، في الوقت نفسه، وبالرغم من حالة الاندثار، أو فكرة أنه "لا شيء يبقى"، فإن الأعمال الفنية تحفز المتلقي على الإبداع والإنتاج؛ لعل يوجد من يقتفي أثره ويحاول أن يخلده ويبرز مرحلته الزمنية مثلما فعل السمري في احتفائه المفرط بالماضي الموغل في القدم، الذي يعبر عنه باستخدام رموز وخدوش ورسوم مستقاة من جدران المعابد والكهوف، تستدعي إلى الذاكرة الكتابات الهيروغليفية الممتزجة بالعلامات والشفرات البدائية، انطلاقًا من استمرار انشغاله بمفهوم الفن البدائي في مصر؛ حيث يرى: "إن للحضارات المصرية القديمة جذورًا عميقة لم نصل إليها بعد".
وفي بحثه عن جذوره وكشفه عن جماليات الماضي، كان السمري يقظًا ومدركًا أهمية أن ينقل موروثه الحضاري بلغة بصرية حديثة ومعاصرة قادرة على تخطي الزمن والمكان، ومنفتحة على مختلف الحضارات، دون أن تحصر الأعمال نفسها في إطار الحضارة المصرية وحدها، استلهامًا وتماهيًا مع حقائق تاريخية مفادها: "كان المصري القديم منفتحًا على كافة الحضارات، وكان تفرده في كافة مناحي الحياة نتيجة تراكمات حضارية عظيمة".
حزمة من الخطوط والتكوينات التلقائية والتعرجات والتبقيعات العشوائية المتداخلة تتدفق على سطح لوحاته؛ لتكسبها مزيدًا من الفطرية التي تتفق مع أفكاره، ويزيدها صدقًا براعته في صنع تركيباته اللونية التي تتأرجح ما بين القوة والخفوت، عبر استخدامه لألوان متنوعة مختلفة، مثل الأصفر والوردي والأزرق الفاتح والبني، ويبقى اللون الذهبي هو أيقونة لوحاته، الذي استدعاه هو الآخر من المصري القديم الذي كان يرمز به إلى سطوع الشمس، ولعل ذلك سبب تكرار الدوائر في لوحاته في رمز إلى قرص الشمس الساطعة، كما أن هذه الدوائر قد تكون رمزًا لامتداد الزمن وتعاقبه.
لكن ليست جذوره التاريخية الممتدة إلى الحياة البدائية أو الحضارة الفرعونية وحدهما ما يشغله؛ فهناك أيضًا بيئته الريفية التي نشأ فيها، ومثلما نقل إلينا السمري الكثير من أسرار وحكايات سردتها جدران الكهوف والمعابد، فإنه أيضًا ينقل إلينا دفء القصص التي ترويها جدران البيوت في ريف مصر، حيث نشأ الفنان، إلى حد أنه يصفها بـ"سحر الجدران"؛ فهذه البيوت التي احتضنت طفولته التي لا تزال كامنة داخله قد احتوت أيضًا الحياة البسيطة التي يعيشها أهل القرى المصرية، والتي كانت وراء تلوين حوائط بيوتهم بأكاسيد ترابية مع الاحتفاظ بآثار اللون الأول، ما يشكل طبقات متراكمة لا تزيدها عوامل الطقس وخربشات الزمن سوى جمالًا وعمقًا وأصالة.
ولا شك أن هذه الحياة الريفية بما تضمه فضاء واسع ممتد في الحقول ومفردات بيئية فطرية مثل النبات والنخيل والحيوانات والطيور والعرائس القماش وحصان القش، قد ساعدت على توهج خياله وبساطة أدواته وألوانه في التعبير عن أفكاره، مثل الخشب وأقلام الرصاص واللغة البدائية والرسومات القديمة والتخريم والثقوب.
ولذلك قد يكون معرضه "لا شيء يبقى" هو في واقع الأمر رسالة مفادها: لا شيء يبقى أو يصمد أمام عوامل الزمن، أو ينبغي له أن يفعل، إلا إذا كان ثمينًا وغاليًا ووثيق الارتباط بالجذور. يقول أيمن السمري "علينا أن نحافظ على بقاء كل ما هو إنساني، وحمايته من الاندثار، ولذلك حرصت أن أجمع في أعمالي العادات والتقاليد والذكريات العزيزة والقيم النبيلة والحياة الريفية بكل بساطتها وحميميتها، وملامح المجتمع الزراعي الذي أصابه ما أصابه بسبب التصحر والتجريف".
قد يهمك ايضا