دمشق - العرب اليوم
أطلقت مجموعة من الشباب الأكراد السوريين، إذاعة جديدة مخصصة لمكافحة التطرف، في وسط سياسي اجتماعي متقلب وعنيف، وفي تجربة تكاد تكون مغامرة لضيق المجال الذي تتحرك فيه جهود الإذاعة، وحساسية المواضيع التي تريد طرحها، على خلفية ارتباط الإرهاب في المنطقة بالدين الإسلامي.
يحمل المشروع الجديد اسم "فويس أوف ناس"، ويبث من مدينة القامشلي شمال شرقي البلاد عبر الإنترنت فقط، عبر الموقع الإلكتروني الرسمي للإذاعة وتطبيقاتها للهواتف المحمولة، باللغتين العربية والكردية، على أن يتم توسيع نطاق البث عبر موجات "إف إم" في الفترة القريبة. ويلاحظ التشابه الواضح بين اسم الإذاعة وإذاعة "فويس أوف أميركا" الشهيرة التابعة لوزارة الخارجية الأميركية، من دون أن تكون هناك أي صلة بين الجهتين.
وينقل العنوان بذكاء معاني مختلفة في وقت واحد، فكلمة "Nas" بالكردية تعني المعرفة وهي تتقاطع لفظاً مع كلمة "ناس" العربية، فيما يعرب فريق الإذاعة عن رغبته في التعاون مع إذاعة رائدة مثل " فويس اوف أميركا": "نريد أن نتعلم وأن ننقل هذا العلم إلى الآخرين الذين نسوا الحياة اليومية بفعل التطرّف والتنظيمات المتطرّفة التي طوّقت الأفراد والأفكار وسيّرتها وفق وجهتها الظلاميَّة".
وأتت فكرة الإذاعة من التراكمات التي عاشتها سورية والأيام العصيبة والظروف التي واجهها أبناء المنطقة من حرب ودمار وإرهاب، حسبما توضح الإعلامية أفين شيخموس، من فريق الإذاعة ، مضيفة أنه "إلى الآن لم نعثر على جهة إعلاميَّة قامت فعلاً بتسليط الضوء على الأمور المهمة التي بدأت تتفشَّى في منطقتنا إلا من خلال منظور بسيط"، ولا يقتصر نشاط الإذاعة على المواد المسموعة، بل تقدم العديد من مواد الملتميديا والأفلام الوثائقية المرتبطة بالإرهاب والتطرف، باعتبارهما "سمتين رئيستين للصراع في سوريا" ولمواجهتهما، يرى أصحاب المشروع أنه "لا بدّ من الابتعاد عن الإعلام النمطي وتشغيل الملتيميديا ومن ثم الاستفادة منها في البرامج الإذاعية التي من الممكن جداً أن تساهم في رفع مستوى الإنذار ليكون القضاء على الأفكار التطرّفية مسألة عامّة وتخصّ كل أبناء المجتمع وبمساهمة من الإعلام الحقيقي".
وترفض شيخموس أن تنسب للإذاعة الناشئة صفة "الإعلام الحقيقي" بل تشدد أن "ما سنقوم به من تنفيذ لأفكار يمكن أن يكون جديداً فعلاً من ناحية التطرّق والأسلوب" مضيفة أنه "لا بدّ للإعلام أن يتطوّر باستخدام كل عناصره التي لم تُستخدَم بعد على كثرتها وغزارتها". علماً أن فريق الإذاعة يتكون من 7 شباب "بقينا في الداخل منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة في سوريا وتحولها إلى عدة أزمات"، ويمتلكون جميعاً خبرة طويلة في العمل الإعلامي، مع جهات أوروبية ومحلية مختلفة، ويحاولون "تغيير الصبغة الإعلامية عن منطقتنا بفعل الحوار وأخذ موقف النقاش الذي يفضي إلى كل الحلول الناجعة بالتأكيد"، ولا تملك الإذاعة مراسلين، كما لا تتلقى أي دعم من أي جهة، سوى شراكتها في مجال إنتاج الملتميديا مع "Sinem Film" الناشطة في مجال المواد البصرية والأفلام الوثائقية بشكل احترافي. علماً أن الإذاعة تمتلك أرشيفاً كاملاً من البصريات وما زالت تجمع أرشيفاً صوتياً "كي نكون الإذاعة المحليَّة التي تخاطب بالإضافة إلى الفرد المحليّ، الفرد العالمي، بشكلٍ عام"، والحال أن مكافحة التطرف تبدو مهمة معقدة، ليس فقط بالنسبة للإعلام بل على المستوى السياسات الخارجية للدول الغربية، التي تقر عموماً بصعوبة القضاء على التطرف من دون الوصول إلى حلول سياسية في الشرق الأوسط تنهي المظالم الاجتماعية المتراكمة التي تشكل جذور التطرف والراديكالية الإسلامية، وتفسح جواً من الديموقراطية والحرية للجميع بلا أي تمييز.
وتوافق شيخموس على صعوبة المهمة "لكون المشكلة ما زالت قائمة على الأرض"، لكنها تشدد على ضرورة "ألا نبقى مكتوفي الأيدي حيال التطرف"، فضلاً عن "مناشدة العالم الذي هو الآخر يعاني آثار ذلك التطرّف"، خصوصاً أنه "لا جهات فعليَّة توثّق وتوصل واقع التطرف الذي يمسّ المنطقة"، وتضيف شيخموس أن الفرق كله يكمن في طريقة الطرح، فالأساليب التي ترفع شعارات مكافحة التطرف تبقى نمطية وغير فعالة، بينما "إظهار الحقيقة وتوثيق الانتهاكات والتطرف الذي يعانيه السوري خلال السنوات الأخيرة ستلعب الدور الإيجابي الأبرز"، معتبرة أن سوريا "تخطّت مرحلة تغيير الحكم في سوريا، وأي حراك ثوري من المفترض ألا يعني إسقاط نظام حكم فاسد فقط، بل علاوةً على ذلك إسقاط نظام فكري وعادات وأساليب معيشة يوميَّة أيضاً"، فضلاَ عن ضرورة معالجة آثار التطرف المنتشر أصلاً، وتحديداً أولئك الأفراد الذين عاشوا تحت حكم الجماعات التكفيرية وأفكارهم الظلامية لسنوات طويلة، ولتحقيق ذلك تخطّط الإذاعة "لإشراك الفئات التي عانت التطرّف على مدى سنوات طويلة استغرقتها الحرب الدمويَّة والمبنيَّة أساساً على التطرّف في محاولةٍ توعوية بغرض إيقاف المدّ التطرّفي، عبر برامج إذاعية تفاعليَّة تعرّف التطرّف وأسالبيه المبتكرة، ولدينا القدرة نحن أيضاً على ابتكار أساليب، لكن للقضاء على التطرّف من خلال زخّم التوثيقات والمعلومات التي ستكون موجودة، القصص والحكايات التي رويت وعاشها أبناء المنطقة ستتحوّل من خلال المعالجة إلى نماذج توضيحية للمجتمع المحليّ وللرأي العام العالمي"، والحال أنه رغم الهزائم المتتالية التي لحقت بتنظيم "داعش" في الفترة الأخيرة، بخسارته مدينة الموصل، أكبر المدن التي كان يسيطر عليها في سورية والعراق معاً، فضلاً عن تراجعه السريع في عاصمته الرقة ومقتل زعيمه أبو بكر البغدادي، إلا أن ذلك لا يعني نهاية الإرهاب في البلدين اللذين أزال التنظيم الحدود بينهما للمرة الأولى منذ اتفاقية سايكس بيكو. فالإرهاب من جهة ليس مرتبطاً بالتنظيم الذي سيتحول الآن من "دولة" إلى جماعة إرهابية، فضلاً عن وجود العديد من التنظيمات التكفيرية المرتبطة بتنظيم "القاعدة"، وحتى التنظيمات الشيعية المتطرفة التي استطاعت تمكين نفسها " حسب شيخموس "
ويحيل ذلك إلى مشكلة أساسية تواجه الإذاعة، وبقية المشاريع التي تحارب التطرف عموماً، بما في ذلك المشاريع التي أنشأتها الإدارة الأميركية على سبيل المثال، وهي طبيعة جمهور هذا النوع من المشاريع الإعلامية. فمن غير المرجح مثلاً أن يستمع المتطرفون للإذاعة أما أولئك الذين يستمعون إلى الضخ الدعائي التكفيري أو المتطرف فهم يمتلكون وسائل الإعلام المتشددة خاصتهم. فيما الأشخاص العاديون، هم أصلاً بعيدون، ولو مرحلياً، عن التطرف، بالتالي تبدو جهود مكافحة التطرف في هذا السياق، عبثية إلى حد ما، لكن شيخموس تقدم وجهة نظر بديلة، فليس كل من انتسب إلى تنظيم متشدد هو إرهابي بالفطرة، "فالعديد من الأشخاص غُسلت أدمغتهم بقصص ما يسمّى بالجهاد، وأساليب مغرية دفعتهم للانضمام إلى تلك التنظيمات المتطرّفة أو ربّما اكتسب هذا الفكر دون إعلان الانتساب" حسب تعبيرها، مضيفة أنه "عندما نقوم بنشر التوثيقات والقصص الخاصَّة بالأعمال التي تقوم بها الجهات المتطرّفة وعرضها كوسائل توعوية سنستهدف بذلك جميع الفائت بطريقة غير مباشرة لحماية الجميع من التطرّف وآثاره"، معربة عن إيمانها بأن جهود فريق الإذاعة لن تذهب سدى: "فكرة العبث غير واردة في مكافحة التطرّف، فالأخير إما أن تقضي عليه أو يقضي عليك".