يوميات روسيا20

يوميات روسيا..20

يوميات روسيا..20

 العراق اليوم -

يوميات روسيا20

بقلم: يونس الخراشي

لكل مكان سحره الخاص. وحيث كنا، في ذلك النزل البعيد وسط قرية معزولة بكالينينغراد، شعرنا بشيء من الراحة المفتقدة لفترة طويلة من الزمن. وكان طبيعيا أن نشعر بالحزن ونحن نفارق أرضا وفرت لنا بعض الراحة. مع أننا في واقع الأمر كنا فرحين بالمغادرة، متشوقين إلى موسكو، بصخبها، وما تمنحه للإعلامي، في حالات كهذه، من فرص للكتابة، والتصوير، والتنويع.

كنا نلتقي بصاحبة النزل لنودعها، ونسلمها المفاتيح. فاقترحت علينا بعض الشاي. دعتنا إلى مطعم غير مستعمل. وهناك تذوقنا الحلويات التي كنت اشتريتها صباحا من الطرف الآخر للقرية، ونحن نتجاذب أطراف الحديث بشأن رحلتنا المتعبة، ومباراة الأمس، وما ينتظرنا في موسكو، وأشياء أخرى كثيرة، لعل أهمها طبيعة المكان، وجماله.

يا له من مكان جميل. قلناها وكررناها. كان أشبه بكنيس، أو بغرفة قصر. البناء بالطوب الأحمر، الذي يعني أن هناك بردا قارسا يتقى، ومطرا قويا يحذر. والنوافذ بالأقواس أعلاها، كي تستجلب أكبر كمية من أشعة الشمس العزيزة جدا في تلك المدينة المعزولة بين دولتين أوربيتين، مع أنها روسية، بفعل تكاليف الحرب العالمية الثانية.

قال الشباب:"يونس، إن صاحبة النزل تصلح لك زوجة". ضحكنا طويلا. وحين كنا نستعد للوداع، أعدت "الجاكيط" لصاحبها، وإذا ببنثابت يقول له:"معذرة، لقد فقدت مظلتك". توقعنا حينها أن يكون الرد كالتالي، مع ابتسامة عريضة، وتربيت على الكتف:"لا بأس عليك، هون عليك". غير أن الذي حدث هو العكس. انفعل الشاب، وقال بغضب ظاهر على وجهه:"إنها مظلة غالية". وراح ينتظر رد الفعل من قبلنا. كان بنثابت لبقا، كعادته، وقال:"اطمئن، أنا مستعد كي أدفع ثمنها، أيا كان". وتهللت أسارير الشاب، وأسارير أمه، وصاحبة النزل معا. ثم راح يحسب ما قدمه له بنثبات، ويضغط بيد على الروبلات، وبأخرى على "الجاكيط" الخضراء، فيما أمه وصاحبة النزل تحسبان معه، بعينين حادتين.

حين كنا نغادر، طلبت منا صاحبة النزل صورة. التقطناها ونحن نسارع كي نتفادى مطرا محدقا. ثم مضينا إلى محطة الحافلة بخطى متسارعة، ونحن نسخر من زميلنا بنثابت، ونستعيد المشهد العجيب. كان مشهدا نادرا في رحلتنا إلى روسيا. ولكنه كان معبرا جدا. فبعض الناس في كالينينغراد يعطونك الانطباع بأنك فرصة، لا غير. وهي الفرصة التي يتعين ألا تضيع. تشعر بذلك في جحوظ العيون، وتلمظ الشفاه، والانكفاء لحساب الروبلات، والمجادلة في الثمن، والحرص على المزيد. وهذا حدث لمرات هناك، بعكس ما كان عليه الوضع في موسكو وسابن بتيرسبورغ. ربما لأن الناس يعانون صعوبة العيش. من يدري؟

وصلنا إلى وسط المدينة، وقد قررنا، سلفا، أن نمضي بعض وقتنا في التبضع، ثم نتناول شيئا ما للغذاء، ونمضي قدما نحو المطار. وهكذا توجهنا إلى السوق. وهو عبارة عن حوانيت صغيرة، أشبه بما يوجد في بلادنا تماما. تجد في المدخل من يبيعون أشياء بسيطة، مثل التذكارات. ثم تجد بعد ذلك صفوفا منظمة لبائعي الخضر والفواكه، وفي الجانب الآخر لبائعي السمك واللحوم، وفي غيرهما لبائعي الأثواب والثياب الجاهزة، وغير ذلك كثير.

ما أثارنا كثيرا هو التذكارات المصنوعة من الكهرمان. فكالينيغراد هي عاصمة الكهرمان في العالم. ثم أثارتنا تلك الأسماء المجففة، ووفرة سمك السومون الذي نادرا ما يطعمه مغربي. وهناك أشياء أخرى مثيرة ايضا، بأثمنة معقولة بالنسبة إلى أجانب مثلنا، غير أنها قد لا تكون كذلك بالنسبة إلى مقيم. ومع ذلك، فالسلع لم تكن بجودة عالية. فمثلا عثرنا على مناديل صغيرة، لكننا فضلنا إلا نشتريها، رغم أن الزميل رزقو كان يرغب في اقتناء بعضها لأمه. 

التقينا، بعد العودة إلى وسط المدينة، في مقهى يضم محلا لبيع الخبز والحلويات. طعمنا بعض الأشياء هناك. ورحنا نتبادل أطراف الحديث مجددا، في انتظار موعد الرحلة إلى موسكو. كان الطقس ما يزال متقلبا. فبينما ترتاح في لباسك الخفيف لأشعة الشمس وهي تتساقط مثل الندى فوق الأزهار والأشجار والعشب الذي يبرز في كل مكان، إذا بك تفاجأ بمطر صاعق، يلطم وجهك، ويضطرك إلى أن تتلفع بالبلاستيك، لتحمي نفسك من البلل.

في الطريق من المقهي إلى المحطة الطرقية نحو المطار، وكان هناك باعة للخبز، والتذكارات، والمأكولات، وكأننا في سوق ممتد على الرصيف، سألنا رجلا بقوام رشيق، في حدود الستين، عن أيسر السبل إلى وجهتنا. وإذا بنا أمام نبيل من نبلاء العالم. قال إن أصله كوبي، ويعيش في روسيا. وابتسم ابتسامة لم تفارقه حتى بعد أن فارقنا. ألح على أن يصحبنا حتى يطمئن إلى أننا بخير وفي الطريق الصحيح. ولم يغادرنا إلا وقد حصلنا على التذاكر، وركبنا في ميكروباص أبيض. تحدث مع السائق والمرافقة. وقال لنا وهو يودع مبتسما:"سفر طيب". 
ونحن في المطار، بعد رحلة قصيرة بين طرق جميلة، تتوسط غابات خضراء جميلة، رحنا نشتغل على مواد الأعداد الجديدة. كل منا في زاوية. ومن سوء حظي، حينها، أنني لم أجد لي مكانا سوى بجانب المرحاض. وكان له باب يصفق، فيحدث رجة مدوية. ولأن الناس لم يتوقفوا عن استعماله، فقد أصيبت طبلة أذني بلوثة. كما أصيب أنفي هو الآخر بلوثة. للأسف، لم يكن لي بد من الاستمرار في العمل هناك، ذلك أنني كنت أشتغل وأستعمل الكهرباء لشحن الأيباد. "ويني راك مفوج لي مع راسك". قلتها في نفسي، وضحكت، وواصلت أيضا.

في لحظة تالية صعقنا بشاب مغربي يقول لنا بغضب:"مشات علي الطيارة". أسفنا لذلك جدا. غير أنه لم يكن لدينا ما نفعله إزاءه. وإذا بنا نكتشف أن طائرتنا هي الأخرى على وشك الرحيل. لقد تغير موعد الرحلة، وقيل ذلك مرارا باللغة الروسية، دون أن نفهمه. ولولا الصدفة التي قادت مغربيا يعيش بروسيا كي ينبهنا، لكنا في ورطة. رحنا نجمع حاجياتنا بسرعة، وكل منا يوصي غيره كي لتفقد الوضع، لكيلا لا ننسى شيئا مهما.

عرفنا، بعدها، بأن الرحلة كانت بالفعل على وشك الانطلاق. بدا المسافرون غاضبين وهم يتفرسوننا بعيون جاحظة، تكاد تقفز من المحاجر. ولأن الطائرة صغيرة، فقد كنا نبحث عن أماكننا فلا نكاد نتبينها. أما وقد جلس كل منا في موضعه، وحلقت الطائرة في السماء، فلم ننعم سوى بكأس ماء. وكأنما كالينينغراد تؤكد لنا مرة أخرى بأنها تأخذ أكثر مما تعطي. 

ما أن وصلنا إلى مطار موسكو، بعد حوالي الساعة ونصف، حتى رحنا نبحث عن محطة القطار إلى وسط المدينة. فوجئنا، حينها، بأن الرحلة الأخيرة على وشك الانطلاق. وكم كان منظرنا مثيرا للسخرية ونحن جميعنا نركض وسط المطار، من مكان إلى مكان، ثم نبدل الاتجاه حين يشعرنا أحد ما بأننا نركض في الاتجاه الخاطئ. وفي الأخير، وقد وصلنا إلى تلك المحطة العجيبة، إذا بالنبل يتجسد مرة أخرى أمامنا. فقد قرر رجال ونساء الأمن أن يفتحوا لنا المعابر الإلكترونية. بل إن أحدهم، وهو كبيرهم على ما يبدو، راح يطمئننا بأن القطار لن ينطلق حتى نركب جميعا. 

لم يكن ذلك قطارا. كان فندقا من خمس نجوم. فالكراسي وتيرة أكثر من اللازم. وهناك مساحة واسعة لكي تمد رجليك، وتمنحهما الراحة. ولديك فرصة كي تتابع شيئا ما مسليا على الشاشة التي أمامك. ثم هناك مرحاض بماء ساخن، ونظافة إلكينيكية ممتازة، حيث يمكنك أن تتوضأ. والنهوافذ الكبيرة تغريك بمتابعة شريط الخضرة والجمال وهو يمر بتؤدة. كان مثيرا جدا أن ذلك القطار لا يتحرك بإيقاع سريع جدا، بعكس الميترو. لكنه متعة، بصدق.

iraqtoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يوميات روسيا20 يوميات روسيا20



GMT 20:41 2019 الجمعة ,14 حزيران / يونيو

"الفار المكار"..

GMT 12:18 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

فريق لكل وزير

GMT 12:16 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

توجه فرنسي بالوداد

GMT 12:29 2018 الخميس ,04 تشرين الأول / أكتوبر

صفات حكام كرة القدم

GMT 12:27 2018 الخميس ,04 تشرين الأول / أكتوبر

الشيخ المُستفز

أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 01:01 2018 السبت ,28 تموز / يوليو

رباب يوسف تؤكد أن الطبيعة تجذب السياحية

GMT 21:04 2017 الأربعاء ,12 تموز / يوليو

سداسي براعم الشباب ينضمون لمعسكرين إعداديين

GMT 14:05 2017 الثلاثاء ,11 تموز / يوليو

إتيكيت حجز الفنادق ومراعاة كافة شروط السكن فيها

GMT 10:13 2018 الثلاثاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

اعتماد إنشاء أكاديميتين للعربية والإنجليزية في نجران

GMT 04:55 2018 الأربعاء ,11 تموز / يوليو

طريقة عمل مكياج مكتمل ومثالي بدون "كريم أساس"

GMT 23:49 2018 الإثنين ,09 إبريل / نيسان

تسريب أول صورة لـ"لكزس ES 2019" الجديدة كليا

GMT 21:54 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

معتز هوساوي يوضح أسباب الخسارة من النصر

GMT 01:18 2017 الجمعة ,29 كانون الأول / ديسمبر

رباح يؤكد أن محاولات تصفية القضية الفلسطينية فاشلة

GMT 01:35 2016 الأربعاء ,20 إبريل / نيسان

الليمون علاج سحري للكثير من مشكلات البشرة

GMT 15:06 2017 الثلاثاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

أحجار الياقوت الثمينة تُغلف عطر مايكل كورس الجديد
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq