العرب بين مأزق اللّغة ومأساة المعرفة

العرب بين مأزق اللّغة ومأساة المعرفة

العرب بين مأزق اللّغة ومأساة المعرفة

 العراق اليوم -

العرب بين مأزق اللّغة ومأساة المعرفة

بقلم : سرور الحشيشة

نقرأ كلّ يوم مقالات ودراسات وأبحاثا وكتبا جديدة تصدرها مجلاّت ودوريّات ودور نشر عربيّة لا تحصى. ولئن كان هذا الكمّ الهائل من الإصدارات يبشّر بغزارة في الإنتاج تسعى إلى أن تجاري في شيء ما يحصل عند غيرنا من الأمم فإنّ هذه الغزارة لا تعكس في واقع الأمر معرفة حقيقيّة تضبطها مقاييس المعرفة العلميّة من جهة ونجاعة المواكبة والإضافة والسّبق من جهة ثانية. ومازال العربيّ ناشرا وقارئا حريصا على فخامة الطّبعة وأناقة الغلاف حتّى صرنا نشتري الكتاب لابتهاجنا بمظهره وحسن إخراجه ونحتفي به لجودة أوراقه ونعومة ملمسها، وإن علمنا أنّه لا جديد منه في العلم ولا موقع له في صرح المعرفة وتراكمها. وإنّ هذا لمؤشّر على أنّ المعرفة ما انفكّت تفقد قيمتها في مجتمعاتنا لأسباب عديدة يرتبط بعضها بما رضيناه لأنفسنا من التّخاذل الفكريّ والحضاريّ والاكتفاء من التّاريخ بموقع مهزوم يعزّي نفسه بأنّ له سلفا صالحا يتغنّى بأمجاده، ويرتبط بعضها الآخر بما أراده لنا غيرنا ذاك الّذي اتّخذ له من العالم مركزا يقودنا منه باعتباره كونيّا وباعتبارنا تابعين، والّذي يحلو لنا أن نسمّيه "الآخر" إبعادا واستيحاشا لاعتقاد أنّه متربّص بنا وبمجدنا التّالدِ. وهذا هو الّذي يفسّر اختزالا ما آل إليه وضعنا الثّقافيّ والحضاريّ. ولنا في الاقتصاد والسّياسة والتّعليم وغير ذلك أمثلة كثيرة. فمازال العربيّ في مختلف المجالات يرضى لنفسه أن يشارك في محافل قوميّة ودوليّة بإنتاج كلاسيكيّ مستهلك لا يجاري ما وصل إليه العقل الكونيّ في شيء، وما زال يتطلّع إلى إثبات الهويّة ونظرته إلى اللّغة العربيّة لا تجاوز ما مدحها به أسلافه في شعرهم ونثرهم، حتّى لم ننافس الألسنة إلاّ في كوننا أهل لسان قيل عنه إنّه أجمل الألسنة، ولم نقدر أن نبلغ به في التّحديث وإنتاج الفكر والحضارة إلاّ نزرا يسيرا لا نضمن معه البقاء في الكون.

     إنّ رؤيتنا الماضويّة لهويّتنا هي الّتي تفسّر تذبذبنا بين نبذ هذا "الآخر" وتشويهه من جهة وانبهارنا به ولِياَذنا إليه من جهة أخرى. وهي نفسها الّتي تفسّر غيْرتنا المقيتة على التّراث وشراستنا في الدّفاع عن السّلف، إذ كان العاصم لنا من طوفان الحضارة الكونيّة والثّوب الوحيد الّذي نملكه في عرس المركزيّة الثّقافيّة الغربيّة. وعلى قدر احتمائنا بماضينا ولِياذنا بصحارى شبه الجزيرة العربيّة تَعْلَمُ خوفنا من رياح الجدّة والتّغيير ممثّلة في هذا "الآخر"، فنحن لا نرى أنفسنا إلاّ في الصّحائف الصّفراء ولا نستطيع أن نعيش إلاّ في جلابيب آبائنا.

    وإنّ تخاذلنا في دخول دورة المعرفة أخذا بالعلم والتّطوّر الهائل الّذي يحقّقه وبإحياء اللّغة العربيّة وتطويعها لمواكبة المعرفة العلميّة في أحدث أطوارها وموجاتها هو الّذي يفسّر عجزنا المتواصل عن الخروج من المأزق التّاريخيّ والحضاريّ الّذي انتهينا إليه منذ قرون طويلة. وإذا كان الوضع المعرفيّ المأساويّ مؤشّرا على انفلاتنا من دورة التّاريخ والحضارة كان مأزق اللّغة هو المؤشّر على مأساة المعرفة. ومن أبسط مظاهر المأزق اللّغويّ الّذي يعيشه العرب اليوم ما نراه من أشكال استعمال اللّغة العربيّة على الإنترنت في مختلف المواقع، ومنها خاصّة مواقع التّواصل الاجتماعيّ.

 ولك في "الفايسبوك" أحسن مثال. فأنت ترى النّاس تكتب العربيّة بحروف لاتينيّة وأرقام، حتّى صار المتعلّمون في المدارس والمعاهد يستبيحون مثل هذه الكتابة في الدّرس ويستعيضون بها عن الأصل الّذي صار غريبا يُرمى أهله بالشّذوذ. وإنّ هذه الحال الّتي آلت إليها اللّغة العربيّة في الاستعمال الحاسوبيّ وغير الحاسوبيّ والّتي يحلو للّسانيّات الاجتماعيّة اعتبارها ظاهرة طبيعيّة أمام احتياجات العصر الملحّة... لناقوس خطر يؤذن بأنّ المأساة على أبواب طور جديد أعمق وأخطر وينبّهنا إلى أنّ الأجيال اليوم تدفع ضريبة تخاذلنا اللّسانيّ في حفظ الهويّة اللّغويّة إحياء وتحديثا وتقصيرنا عن مسؤوليّتنا التّاريخيّة في ضمان البقاء والاستمرار للهويّة الثّقافيّة والحضاريّة.

        لقد عاش العرب على وقع النّهضة العربيّة زمنا طويلا تجرّعوا فيه مرارة الماضويّة وأوهامها وما جرّته عليهم سياسات التّأليه والتّمويه. وما زالوا بين مأزق اللّغة ومأساة المعرفة حتّى استفاقوا على ثورات خالوا في عشيّة أنّها الرّبيع يأتيهم بعد شتاء رهيب. ومازالوا في غمرة الأحداث يزيلون أصناما كانوا هم نحّاتيها والعاكفين عليها حتّى رأوا رأي العين أنّ ربيعهم إن هو إلاّ وجه آخر لمأساة اللّغة والفكر ووهم جديد من أوهام "الهويّة المومياء". وهم يعيشون اليوم بين حقيقة الثّورة ووهم الرّبيع فلا تجد لهم من خطاب إلاّ ما بنوه منذ قرون على فكرة الشّقاق والتّفريق. فبات خطابهم نمطيّا محنّطا لا يتصوّر الكون إلاّ شقّين هما "الأنا" و"الآخر" بمختلف أشكاله وتجلّياته. فهو "الآخر" القريب الّذي يقبع بيننا داخل أسوار ديارنا. وهذا يمثّله مرجعان بحسب موقع من يمثّل "الأنا" وهو الشّعب. فهو إمّا الدّولة ممثّلة في حكومات بائسة تتعاقب في صمت مريب ولا تراها الأغلبيّة منها في شيء. وإمّا هو كتل الشّعب إذا نظرنا إليه فرقا وأحزابا سياسيّة ودينيّة وفكريّة....على أنّ صورة الآخر البعيد القابع في بلاد الغرب أو "ديار الكفر" كما...

iraqtoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العرب بين مأزق اللّغة ومأساة المعرفة العرب بين مأزق اللّغة ومأساة المعرفة



GMT 12:16 2019 الإثنين ,30 أيلول / سبتمبر

فتاة القطار

GMT 16:24 2019 الأحد ,19 أيار / مايو

أجيال

GMT 19:35 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

هذا ما أراده سلطان

GMT 17:50 2018 الثلاثاء ,24 تموز / يوليو

في نسف الثّقافة..

GMT 14:29 2018 الإثنين ,23 تموز / يوليو

الحُرّيّة

GMT 17:41 2018 الخميس ,19 إبريل / نيسان

​عبدالرحمن الأبنودي شاعر الغلابة

GMT 13:08 2018 الأربعاء ,18 إبريل / نيسان

الموت كتكتيك أيدولوجيّ

أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 22:51 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

أمير الكويت يؤكد علي أهمية الاقتصاد وتنويع الدخل

GMT 06:43 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

دراسة تعلن التحول للطاقة البديلة بحلول عام 2050

GMT 00:58 2017 الإثنين ,23 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على أحدث تصميمات ديكورات حدائق المنزل العصرية

GMT 11:09 2019 الثلاثاء ,05 شباط / فبراير

بريطانية منعت الماء منذ 20 عامًا عن شعرها الطويل

GMT 09:20 2019 الخميس ,10 كانون الثاني / يناير

بطلة فنون قتالية تُلقّن لصًا درسًا لن ينساه في البرازيل

GMT 14:15 2018 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

البولندي كوبيستا يعود لسباقات فورمولا-1 في 2019 من بوابة ويليامز

GMT 15:36 2018 الإثنين ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

السويسري شاكيري يكشف سبب رحيله عن بايرن ميونخ

GMT 13:21 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

شاكر يؤكّد تنفيذ مصر أوّل محطة نووية في الضبعة

GMT 08:13 2018 الإثنين ,29 تشرين الأول / أكتوبر

إندونيسيا تعلن تحطم طائرة ركاب في بحر جاوة

GMT 02:55 2018 السبت ,27 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على 6 محطات مهمة فى حياة الأميرة شيوه كار
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq