بقلم - مكرم محمد أحمد
ثمة مؤشرات عديدة ربما يصعب عدها، تؤكد أن روسيا تعود بقوة إلى منطقة الشرق الأوسط لتصبح منافساً قوياً للولايات المتحدة التى خسرت الكثير بسبب انحيازها الأعمى لإسرائيل واعترافها غير المبرر بالقدس عاصمة لإسرائيل، على حين نجح الرئيس بوتين فى الحفاظ على علاقاته بالدول العربية وزاد على ذلك علاقاته المتصاعدة مع المملكة العربية السعودية التى عبرت عنها زيارة الملك سلمان الأولى لموسكو هذا العام، ثم المصافحة القوية للرئيس بوتين لولى العهد السعودى محمد بن سلمان فى قمة العشرين الأخيرة التى عقدت فى بوينس إيرس وشهدها العالم أجمع، والأكثر دلالة على تمدد روسيا فى الشرق الأوسط نجاحها فى إنشاء علاقة صداقة قوية مع إسرائيل، حيث زار رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو موسكو 4 مرات وتحدث إلى بوتين 11 مرة هذا العام، بما يؤكد تأثير روسيا المتزايد فى الشرق الأوسط بعد ثلاثة عقود من انهيار الاتحاد السوفيتي، لتملأ الفراغ الذى خلفته إدارة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما نتيجة إخفاق سياساته فى الشرق الأوسط، وتبنى إدارته أفكار الفوضى البناءة وضلوعها فى أحداث يناير التى يسميها البعض بثورات الربيع العربى رغم الخراب والتدمير الذى لحق بدول الشرق الأوسط، وكما لاحظت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية يجوب الشرق الأوسط الآن مرارا وتكرارا خبراء البترول الروس ومروجو تجارة السلاح وممثلو الهيئات التمويلية الروسية بحثا عن المزيد من الصفقات، ويوقعون العديد من عقود الاستثمار بمليارات الدولارات، ويحيون علاقاتهم القديمة بدول المنطقة، ابتداء من ليبيا إلى دول الخليج، وثمة ما يؤكد أن روسيا عقدت خمس اتفاقيات فى الشرق الأوسط لإنشاء خمس محطات نووية فى دول المنطقة، كما عقدت روسيا عشرات من صفقات الغاز والبترول ببلايين الدولارات مع السعودية وكردستان والعراق، وضاعفت صادراتها من السلاح إلى الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة لتصل قيمتها إلى 24 بليون دولار خلال السنوات العشر القادمة فى منافسة قوية للسلاح الأمريكى الذى تصل حجم مبيعاته إلى 81 بليون دولار، ومنذ التدخل العسكرى الروسى عام 2015 فى الأزمة السورية والمساندة القوية التى قدمتها القوات الجوية الروسية لجهود الجيش السورى فى تصفية ثوار المعارضة السورية المسلحة التى كانت تسيطر على مشارف دمشق فى منطقة الغوطة، وتهدد العاصمة السورية، منذ هذا التاريخ ونفوذ موسكو يتوسع فى كل دول المنطقة لتصبح روسيا طرفا مؤثرا فى جميع صراعات وأزمات المنطقة، ابتداء من الحرب اليمنية إلى الموقف فى لبنان حيث قدمت روسيا لأول مرة فى تاريخ لبنان عرضا بتسليح الجيش اللبنانى بما قيمته بليون دولار. وربما تكون روسيا قد تكبدت بسبب تدخلها فى الأزمة السورية خسائر مالية ضخمة إضافة إلى خسائرها الكبيرة من القادة العسكريين والطيارين الذين فقدوا حياتهم هناك، إلى حد أن معظم الدول الغربية كان يعتبر التدخل الروسى فى الأزمة السورية مغامرة غير مأمونة العواقب، ربما تؤدى إلى إفلاس روسيا وضياع بوتين، لكن الرئيس الروسى واصل هدفه بعزيمة وإصرار رغم هذه الخسائر إلى أن تمكن من إنقاذ الدولة السورية، والإبقاء على الرئيس بشار الأسد الذى كان يطالب الجميع برحيله، وتحقيق هدفه النهائى فى أن تكون له ركيزة قوية شرق المتوسط تعزز مكانة روسيا وتجعل منها طرفا مؤثرا فى المنطقة وعلى امتداد الساحة العالمية.
ويتوج علاقات روسيا فى الشرق الأوسط علاقة الشراكة الإستراتيجية مع مصر التى تعززها صداقة قوية تربط الرئيس الروسى بوتين بالرئيس السيسى الذى زار موسكو 4 مرات آخرها فى أكتوبر الماضى حيث تم توقيع اتفاق الشراكة الإستراتيجى الذى ينطوى على اتفاقين مهمين، أولهما المتعلق بإنشاء أول محطة كهرباء نووية فى الضبعة تم توقيع اتفاقها بالفعل الذى ينص على إسهام الصناعة المصرية بـ 20% من مكونات المحطة، واتفاق المنطقة الصناعية الروسية فى محور قناة السويس الذى ينص على إقامة عدد من الصناعات الإستراتيجية الثقيلة بينها مشروع مركبات ومعدات النقل الثقيل، ومشروع إنشاء مصنع مشترك لإنتاج عربات السكك الحديدية المصرية، فضلاً عن صفقة سلاح مكنت مصر من الحصول على طائرات الهليوكوبتر الهجومية التى تفوق فى تسليحها وقدرتها طائرات الأباتشى الأمريكية، إضافة لطائرات مقاتلة نفاثة ذات قدرات عالية، وربما كان أهم ما يميز العلاقات المصرية الروسية، الشفافية والوضوح والصراحة وتأكيدات موسكو على أهمية تسوية منازعات الشرق الأوسط سلميا، والحفاظ على وحدة الدولة والأرض السورية، ومساندة مصر لضرورة مساعدة الجيش الوطنى الليبى وإمداده بالسلاح، كما ترتبط روسيا بعلاقات وثيقة مع دولة الإمارات حيث زار ولى عهد الإمارات محمد بن زايد موسكو 7 مرات على امتداد السنوات الخمس الأخيرة كما وقع البلدان اتفاق تعاون إستراتيجي.
وكما ترتبط موسكو بعلاقات صداقة وتعاون مع كل الدول العربية بما فى ذلك قطر، ترتبط بعلاقات وثيقة مع معظم القوى الإقليمية فى الشرق الأوسط بما فى ذلك تركيا التى كانت تمثل عامل قلق للاتحاد السوفيتى لكونها واحدا من أهم أعضاء حلف الناتو، لكن تركيا ترتبط الآن بعلاقات تزداد وثوقا مع روسيا، بينما يسود التوتر علاقاتها بالولايات المتحدة، واتفقـت تـركيا لأول مــرة على شـراء نظام صواريخ S 400 التى سوف تتسلمها تركيا العام القادم، وتشكل العلاقات الروسية التركية الآن أحد التحديات المهمة لحلف الناتو الذى كانت تركيا إلى عهد قريب أهم أعضائه!، كما ترتبط روسيا بعلاقات وثيقة مع إيران تنبع من توافقهما على مساعدة سوريا وبشار الأسد، فضلا عن أن روسيا تؤيد الاتفاق النووى الإيرانى وترفض موقف الأمريكيين منه.
و ينبغى ألا نسارع إلى استنتاج أن العلاقات الروسية المتنامية مع معظم الدول العربية ودول الشرق الأوسط عموماً تعنى بالضرورة تغييرا كيفيا فى علاقات أمريكا بدول المنطقة، لأن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بالصدارة ولا تزال الأقوى حضورا، وإن كانت مصداقيتها قد هبطت كثيرا بعد القرار الأحادى المفاجىء الذى وقعته الولايات المتحدة دون أى تشاور مع العرب والفلسطينيين باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس فى قرار أحمق لا تزال ترفضه أغلبية ساحقة من المجتمع الدولي، ومن المؤكد أن هذا القرار جاء بمثابة ضربة قاصمة للعلاقات الأمريكية العربية التى كانت مرشحة للازدهار فى بداية عهد الرئيس ترامب نتيجة الأخطاء الكبيرة التى وقعت فيها إدارة الرئيس السابق أوباما الذى خان كل وعوده للعرب، التى أطلقها فى خطابه على منبر الجامعة المصرية، لكنه تراجع أمام تهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو..، ولو أننا جردنا بتجرد رصيد القوة للجانبين فسوف تكون الغلبة للولايات المتحدة، رغم أن موسكو تتمتع بوجود عسكرى قوى شرق المتوسط فى قاعدة طرطوس البحرية السورية وقاعدة حميميم الجوية وعدد آخر من القواعد الجوية فى سوريا، وربما وصلت أعداد القوات الروسية إلى 60 ألفاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وإن كان الرقم قد هبط كثيراً الآن، لكن ما من شك أن الوجود العسكرى الأمريكى يفوق بمراحل الوجود العسكرى الروسى لأن الولايات المتحدة تملك عدداً من القواعد العسكرية المهمة فى مناطق الخليج أهمها قاعدة العديد فى قطر، كما أن عدد قواتها فى هذه القواعد يتجاوز 45 ألف جندي، وبرغم كثرة تلميحات المسئولين الأمريكيين عن عزم الولايات المتحدة الانسحاب من الشرق الأوسط بدعوى أن الوجود الأمريكى فى آسيا والشرق الأقصى يحقق مصالح الولايات المتحدة الجديدة فى عالمنا اليوم، لكن جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكى يرفض بكل قوة الإيماءات التى تقول إن أمريكا تنسحب من الشرق الأوسط، وأن روسيا سوف تحل محل الولايات المتحدة، مؤكداً أن الحضور الروسى لا يمكن أن يكون بديلا للحضور الأمريكي، وأن الولايات المتحدة سوف تبقى فى الشرق الأوسط ولن تغادره، بينما يؤكد الرئيس الأمريكى ترامب أن السبب الوحيد الذى يدعو لبقاء واشنطن فى الشرق الأوسط هو إسرائيل !، غير أن الحقيقة المؤكدة على أرض الواقع تقول إن الحضور العسكرى لأى من الطرفين يستدعى بالضرورة وجود الطرف الآخر!، والأكثر استجابة لمصالح المنطقة ألا يوجد الطرفان، وتصبح المنطقة أكثر اعتماداً فى أمنها على قوتها الذاتية التى تستطيع دون شك أن تملأ فراغ القوتين.
ويجمع أغلب المحللين على أن نجاح روسيا لاعبا أساسيا على مسرح الشرق الأوسط، وطرفا مهما يستحيل تجاهله على المسرح العالمي، يعود إلى دهاء الرئيس الروسى بوتين الذى مكنه من التفوق على كل من الرئيسين الأمريكيين أوباما وترامب فى لعبة الشرق الأوسط، وإن كانت أجهزة المخابرات الأمريكية والأوروبية ترى عكس ذلك، وأن بوتين لم يكن أبدا رجل مخابرات بارعا كما يعتقد البعض، لكن الباحثة المصرية المجتهدة نورهان الشيخ أستاذ العلاقات الدولية فى جامعة القاهرة التى تتقن الروسية، ترى أن بوتين بالفعل قيادة استثنائية فى التاريخ الروسى ربما لا ينافسه سوى بطرس الأول الذى حكم روسيا على امتداد أربعة عقود غير فيها وجه روسيا ووضع أساس نهضتها، وأنه قيادة كاريزمية يتمتع بعظمة القياصرة ودهاء الساسة وشجاعة القادة وأن لديه القدرة على الإنجاز، وقد وصفه الرئيس الأمريكى ترامب بأنه القائد القوى الذى يحب التفاهم معه، وأن دهاءه السياسى هو الذى دفعه إلى عدم تغيير الدستور من أجل شخص، واختار أن يأتى برئيس الوزراء ميدفيديف رئيس وزرائه رئيساً للجمهورية، وانتقل هو للعمل رئيساً للحكومة على مدى أربع سنوات عمل خلالها كرجل ثان فى النظام، وهو بطبعه شخصية حاسمة استطاعت أن تحد من تدخل رجال الأعمال فى السياسة، وربما يكون نجاحه فى إنهاء المشكلة الشيشانية وإعادة بناء التحالف الصينى الروسى دليلا قويا على دهائه، فضلا عن أن بوتين أحسن ترجمة رغبة الشعب الروسى القوية فى أن تستعيد روسيا مكانتها فى العالم، وذلك ما يفسر المساندة الضخمة التى تحظى بها سياساته الخارجية من جانب الشعب الروسي، وسواء كان نجاح بوتين يعود إلى مهاراته أم إلى ظروف توليه السلطة، فلا شك أن إخفاق سياسات الرئيس الأمريكى فى الشرق الأوسط وتأييده الأرعن لإسرائيل وإخفاقه فى عدم فهمه أهمية القدس للمسلمين والعرب هو الذى مهد للرئيس الروسى بوتين طريق النجاح.