بقلم : إنعام كجه جي
تجتمع العائلة حول التلفزيون، تستمع إلى النشرة الجوية. تبتسم المذيعة ببراءة وتعلن أن الحرارة في بغداد 44 درجة مئوية. يصيح رب العائلة: «يعني 50». وتهز الزوجة رأسها موافقة ومثلها يفعل الأولاد والبنات والأصهار والكنّات. حتى قطط الحديقة تموء مؤيدة ما قاله الأب. لا أحد يصدّق التلفزيون المحلي. إنه يكذب لكي يخفف بلاء القيظ عن كاهل العباد. والثقة مفقودة بين الشعب وإعلامه الرسمي. وهي ظاهرة تكاد تكون في معظم الدول العربية، بل عالمثالثية. لا يصدق المواطنون نشرة الطقس ولا يأخذون الأخبار على محمل الجد. يقولون إنها نشرة الحكومة. والحكومة لا يمكن أن تصدق معهم لأن الصدق فضيحة. لذلك يأخذون الأخبار من القنوات الأجنبية. وفي صباها كانت البنت تعتبر أباها رجعياً لأنه يفتتح صباحه بالاستماع إلى إذاعة لندن.
اليوم نحن في محنة «كورونا». ومهما كانت أرقام الإصابات التي تعلنها الحكومات فإن الشعوب، شرقاً وغرباً، لا تثق بها. تقول المذيعة إن عدد الوفيات بلغ كذا فتلعب الفئران في أعباب المستمعين ويهجسون بأن الرقم الحقيقي هو أضعاف ذلك. نتصور أن بلادنا هي وحدها المتخصصة في تمويه الأرقام. ولدينا نكتة تقول إن أنواع الكذب ثلاثة: الأسود، والأبيض، والإحصائيات. وقد سمعتها من مسؤول كبير في الجهاز المركزي للإحصاء. لذلك فإننا، تاريخياً، لا نصدق نتائج الانتخابات، ونسخر من تسعير الشلغم، أي اللفت، ونشكك حتى في نتائج كرة القدم. نتصور القضية خلّة محلية في حين أن الرياء مرض عالمي. كذب المسؤولون ولو صدقوا.
نسمع الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين والصينيين يتهمون كبارهم بالخداع فيما يخص التعاطي مع «كورونا». ويطلع الصحافي الفرنسي المخضرم آلان دوهاميل على الشاشة ليقول إن الديمقراطيات الكبرى فوجئت بالوباء وتخبطت في مواجهته. والمسيو دوهاميل هو عضو معتّق في أكاديمية علوم الأخلاق والسياسة. نعم هناك أكاديمية فرنسية بهذا الاسم. وقبل أيام وقف الرئيس ماكرون يدافع عن نفسه قائلاً إن على الجميع، حالياً، العمل يداً واحدة في مواجهة الداء. «وعندما ننتهي منه تعالوا وحاسبوني». هي الحرب التي لم يشهد أحد ما يشبهها. وفي الحروب تحتشم المعارضة وتؤجل مناكفاتها. وهو ما فعله رؤساء الأحزاب في فرنسا حين خففوا من النبرة وأعلنوا مساندة جيش الأطباء والمسعفين والممرضات.
منذ عشر سنوات تخرج آلاف الممرضات للتظاهر في شوارع باريس وغيرها من المدن، يطالبن بتحسين مرتباتهن. إنها قليلة ولا تتناسب ومشقّات المهنة، الجسدية منها والنفسية. وبعد «كورونا» لا بد أن يختلف الأمر. لا أظنهن مضطرات للنزول إلى الشارع والهتاف ورفع اللافتات والصراخ بالصوت العالي. لقد سمعنا الرئيس يقدّم لهن الوعود بلسانه: غاليات والطلب رخيص.
هل تتغير علاقات التجاذب وسوء الظن بين الشعوب وحكوماتها بعد زلزال الفيروس اللعين؟ نتفرج على تعليقات وتخمينات وقراءة فناجين عن وزارات ستسقط، ووجوه ستسوَدّ، ومسؤولين سيوضعون على الرف. لكن لا أحد يحلم بأن يتوقف التلفزيون في معظم بلادنا عن محاباته، ليس لأن حبل الكذب قصير، ولا لأن الكذاب يذهب إلى النار، وإنما لأن هناك، دائماً، نفوساً أمّارة بالسوء والمداهنة والانتهازية ومسح الجوخ. هناك دائماً من يحب أن يتسلق النخلة بلمح البصر وغناء «مدّاح القمر».