على بعد تسعة أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية، خرج دونالد ترمب منتصراً من محاكمة عزله على خلفية تهمتي إساءة استخدام السلطة وعرقلة عمل الكونغرس. وكعادته باقتناص الفرص، تجاهل المحاكمة برمتها وبكل زهو وثقة بالنفس ألقى خطاب «حال الاتحاد» بنكهة انتخابية فاقعة وسط مقاطعة الجمهوريين له بالتصفيق هاتفين: «الولايات المتحدة، الولايات المتحدة»، ونجح باستفزاز الديمقراطيين إلى حد مزقت معه رئيسة مجلس النواب الديمقراطية، نانسي بيلوسي، نسخة من خطابه أمام عدسات التصوير.
وإن سارت الأمور من دون مفاجآت ومع حالة الضياع التي تلم بالحزب الديمقراطي، ارتفعت حظوظ الرجل بالفوز في الاستحقاق الرئاسي العتيد. فماذا لو حصل ذلك في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل وبقي ترمب جالساً في البيت الأبيض؟ وما هي ذيول فوزه على المنطقة بعامة وإيران بخاصة؟
الأرجح أن تبقى المنطقة تحت عنوانها الأبرز أي استمرار الوهن الذي ألمّ بالجمهورية الإسلامية بعد فرض «أقصى العقوبات» عليها ومقتل قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، لتكر السبحة ويقتل مساعده المدعو أصغر باشبور في جنوب حلب منذ أيام، وتغتال درون أميركية زعيم القاعدة قاسم الريمي في تلازم لا يخلو من معنى.
إن ما مات مع مقتل المنفذ الأول لسياسة إيران التوسعية والمشرف على أذرعها الخارجية، سليماني، هو هالة القوة «الإلهية» التي كانت طهران تحيط نفسها بها، وذاك الانتفاخ الإيديولوجي المفتعل الذي جعلها عابرة للحدود وأمن لها قدرة التسلل إلى البيئات الشيعية المحلية في المنطقة. فبعد مقتل سليماني وفي فترة زمنية قصيرة، طفت على السطح كل عورات إيران لتظهر مواطن ضعفها، من ردها المسرحي بقصف قاعدة عسكرية في العراق تتمركز فيها قوات أميركية لم يسفر عن وقوع أي ضحايا، إلى إسقاط الطائرة الأوكرانية إلى خروج مظاهرات في الداخل منددة بممارسات النظام رفعت فيها لافتات كتب على إحداها «الحرس الثوري هو داعش في إيران»، وصولاً إلى ردها الخجول على صفقة القرن. وظهر أيضاً التباين بين الأصيل أي الحكومة الإيرانية والوكيل أي الحرس الثوري الإيراني، عندما اعتبر الرئيس حسن روحاني في خطاب ألقاه يوم 16 يناير (كانون الثاني) أن الأزمة الاقتصادية مرتبطة بسياستهم الخارجية، في إشارة واضحة إلى استيائه من أفعال الحرس. وجاء اضطرار المرشد علي خامنئي إلى إلقاء خطبة الجمعة باللغتين الفارسية ثم العربية وسلاحه إلى جانبه في أول خطبة يلقيها منذ العام 2012، دليلاً لحاجة طهران إلى شد العصب المذهبي والقومي، فدافع عن الحرس ودعا الشعب الإيراني إلى وحدة الموقف والصبر موظفاً العاطفة الدينية ومركزاً على العدو الخارجي، من أميركا التي طالبها بمغادرة المنطقة إلى الدول الأوروبية التي «لا يمكن الوثوق بها».
ليس من المبالغة القول إن شقوقاً قد تكون عميقة أصابت الجسم الإيراني. فهل طهران على بينة من هذا الواقع وستفلح في قراءة الأحداث وتطوراتها وتتخلى عن النكران لتُدرك أن «الشرير والمتهور»، على حدّ وصف الحرس الثوري لترمب، في طريقه إلى ولاية ثانية؟ وكيف ستتصرف حيال ذلك؟
السيناريو الأعقل هو أن تتوخى إيران الليونة في تعاطيها مع الوقائع فتحافظ على الأوراق التي جمعتها خلال 40 سنة لتعويم وضعها وموقعها. قد تدرك طهران طوعاً أو كرهاً أن بقاء ترمب في البيت الأبيض ينبغي أن يُقابل بحكمة وصبر يقودان إلى طاولة المفاوضات، ولا بد لها هنا من التفكر بمضمون هذه المفاوضات وحدود «التنازلات» القادرة على تجرعها. فهل ستقبل مثلاً بتحجيم دورها في الإقليم، وهو الملف الذي توليه أهمية تتخطى أهمية «النووي»، وإلى أي مدى هي مستعدة للتراجع وما هي التنازلات المتاحة والتي تمكنها من المحافظة على دور في الإقليم بما لا يمنع واشنطن من رفع العقوبات عنها والبدء بتطبيع العلاقات معها؟
السيناريو المتهور هو أن يكون النظام الإيراني مستعداً للمقامرة ووجوده على المحك، وهذا ليس بمستغرب عليه وهو النظام العقائدي المتشدد، فيواصل تحدي المجتمع الدولي واستفزاز الولايات المتحدة لدفع رئيسها إلى الإقدام على مغامرة عسكرية قبل الانتخابات معتقداً أن عملاً عسكرياً قد يطيح بحظوظ فوزه بولاية ثانية. أمام سيناريو كهذا، يمكن القول إن خطر الحرب بات احتمالاً وارداً ولو بنسبة ضئيلة جداً، لكن الأكيد أن المرحلة المقبلة التي تنتهي فور الإعلان عن نتائج الانتخابات الأميركية ستكون مرحلة ترقب وحذر ينكب خلالها كل فريق على تقييم وضعه وتحصين جبهته بما يملكه من نقاط قوة مع محاولة تبديد نقاط ضعفه.
إن الصورة الكبيرة لاحتمالات المرحلة المقبلة في العلاقات الأميركية الإيرانية تنسحب على «المايكرو» في الإقليم ليبرز السؤال نفسه: كيف سيتعاطى حلفاء طهران في لبنان والعراق وسوريا واليمن مع فرضية بقاء ترمب رئيساً لأربع سنوات إضافية؟ هل سيختارون مقايضة أوراقهم التي اكتسبوها كقوت المقبل من الأيام ليخلعوا ثوب الجماعات المسلحة المرتبطة بالخارج ويتحولوا إلى كيانات سياسية ذات نكهة محلية، أم سيلجأون كما إيران إلى المقامرة والاستمرار في الغي وضرب مصالح الوطن العليا بعرض الحائط دعماً لراعيهم الإقليمي؟
في الشأن اللبناني كنموذج يحاكي في أوجه عدة ما تعانيه الدول التي لإيران اليد الطولى فيها، وعلى ضوء حكومة اللون الواحد والمشاكل الاقتصادية والمالية والاجتماعية الهائلة التي تتهدده، من الضروري التوقف أيضاً عند الاحتمالات الممكنة. هل سيكتفي حزب الله وحلفاؤه بمكتسباتهم ويُقدمون على محاولة جدية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والخروج من المأزق عبر تسوية وسطية تعيد للبنان هويته، كما تطبع علاقاته مع العالم العربي وتطبق سياسة النأي بالنفس عن المحاور قولاً وفعلاً؟ أم أن ما من مُتاح سوى الاستمرار بالنهج المتعنت والمكابر ذاته مع توقع المزيد من الكوارث على هذا البلد وشعبه؟
في الحالة الثانية، لا مجال لمحاولة التبصر في مصير البلاد لأن السواد الذي سيدخله سيحجب الرؤية! أما في الحالة الأولى، أي إذا حصل ودخل حزب الله في مفاوضات، فمن هو الطرف المحاور وهل سيكون مستعداً لها وماذا سيطرح على طاولتها؟
ثلاثة مواضيع رئيسية ينبغي أن تكون على الطاولة: الأول هو بالطبع سلاح حزب الله والثاني، وهو مكمن العلة، مشروع الحزب السياسي والاجتماعي المنغلق آيديولوجياً وثقافياً وبقاؤه كجسم إيراني نافر في قلب الجسم اللبناني، ومناقضا على ما تأسس عليه لبنان من قيم مدنية وديمقراطية.
والثالث هو موقع لبنان ودوره وسط التجاذب الحاد المتوقع في الإقليم في ظل الوضع المستجد بعد الإعلان عن صفقة القرن وضمور وهج النزاع العربي الإسرائيلي وإمكانية تطبيع عربي إسرائيلي من جهة، وما اتضح من جهة أخرى أن القضية الفلسطينية ومقاومة إسرائيل لم تكونا يوماً بالنسبة لإيران سوى وسيلة دعائية لخدمة أجندتها الخارجية في بعديها العقائدي والتوسعي.
الخوف، كل الخوف، من أن يبقى الطرف اللبناني المناهض للحزب متشرذماً ويفوت لحظة تاريخية يكون فيها الحزب مجبراً على التفاوض.