«صفقة القرن» مرآة لأحوال متردية

«صفقة القرن» مرآة لأحوال متردية

«صفقة القرن» مرآة لأحوال متردية

 العراق اليوم -

«صفقة القرن» مرآة لأحوال متردية

بقلم : سام منسى
بقلم : سام منسى

هل كان الرئيس دونالد ترمب ليُقْدم على تبني «صفقة القرن» في فترة سابقة من تاريخ هذه المنطقة حين كانت أحوالها أفضل وأقل تشرذماً؟ وهل كانت الأصداء على الإعلان عنها لِتكون نفسها؟ السؤال مشروع بعد مراجعة لردود الفعل الباهتة العربية والدولية على صفقة تهدف، إنْ افترضنا حُسن النية، إلى إنهاء أقدم صراع في منطقة الشرق الأوسط وأعقده، أُشعلت شرارته منذ إعلان بلفور عام 1917 ليحتدم على مدى أكثر من سبعين عاماً، ويتحول إلى قضية مركزية أبعادها وتداعياتها سياسية وأمنية وإنسانية على حد سواء.


قبل استشراف الإجابات المحتمَلة، لا بد من التوقف عند محطات مهمة أولاها الشكل والتوقيت الذي أُعلنت فيهما هذه الصفقة، إذ بدا للوهلة الأولى كأننا في مهرجان محلي انتخابي يتوجَّه إلى مدعوين مختارين من الولايات المتحدة وإسرائيل.


لم يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بصورة مغايرة لصورته النمطية لجهة الفوقية المفرطة التي تلازمه، وبدا كأنه يخاطب تحديداً الغالبية في جمهوره اليميني لا سيما من الإنجيليين المسيحيين المتشددين. كذلك بدا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. الزهو لديهما معاً لم يحجب حقيقة مواجهتهما في الوقت عينه لاستحقاقين خطيرين: محاكمة للأول جارية في الكونغرس ومحاكمة انطلقت للثاني، وهما أيضاً على مشارف انتخابات مفصلية يجاهدان كلاً على طريقته، للفوز فيها. كما أن تضخيم حجم الإنجاز المتوقع من الصفقة لم يستر رغبتيهما في استخدامها لمواجهة الخصوم في الداخل. فهل من وقت «أفضل» للإعلان عنها وتسويقها أكثر من فترة تجري فيها محاكمات وتسبق انتخابات؟


هذا في الشأن الداخلي، أما في البعد الخارجي فالتوقيت لا يقل أهمية، إذ مرّر الرئيس ترمب صفقته مستغلاً الواقع العربي «المأزوم»، أو لِنقل، المنشغل أكثر من أي وقت مضى بوحوله الداخلية كما التهديدات الخارجية المتربصة به. صحيح أن الرئيس ترمب حالة فريدة في تاريخ الجالسين في المكتب البيضاوي لجهة ما عُرف عنه من تناقض وحب هوليوودي للاستعراض، لكن حتى هو، لم يكن لِيقدم على الوقوف أمام العالم أجمع معلناً عن هكذا صفقة لو كانت أوضاع الإقليم على غير ما هي عليه اليوم. فهذه التسوية - الصفقة يصعب هضمها في البعد الإنساني والأخلاقي قبل السياسي والأمني لاغتصابها حقوق الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج معاً، وانحيازها المطلق والمستفز للطرف الإسرائيلي واعتبارها أن تقديم أشلاء دولة لشعب سيبقى تحت رحمة المحتل ولو بثوب آخر إنجاز تاريخي! هذا عدا تجاهلها للأمم المتحدة ولحلفائها الأوروبيين وللعرب الذين على الرغم من واقعهم الأسود، تبقى القضية الفلسطينية حية في وجدانهم. غياب البعد الأخلاقي نسفٌ لكل القيم الأميركية المعلنة من حقوق إنسان وشرعية دولية وحق تقرير المصير.


إنما أيضاً، الموضوعية تقضي أن نقول إن القضية الفلسطينية استغلت لمكاسب في الداخل ووصلنا إلى ما يسمى «الوهن العربي» المزمن والممسك بمفاصل بنيوية في دولنا. نعم، استغلت الأنظمةُ العربية القضيةَ الفلسطينية فأعلنت حالة طوارئ دائمة منعت التنمية بكل أشكالها وبررت انتهاكات حقوق الإنسان، وسمحت بنشوء «مقاومات» خارجة عن الدولة مهّدت لظاهرة الجماعات المارقة، وأوغلت في ممارسات الممانعة والرفض التي «نجحت» مراراً بإسقاط مبادرات سلام ومشاريع تسوية في تاريخ النزاع العربي الإسرائيلي الطويل. هذا إلى جانب مسؤولية حماس وأفعالها في غزة والسلطة الوطنية الفلسطينية، التي عندما أعطيت الفرصة لم تقدم سوى نموذج مزرٍ للحكم حاكى بعض نظرائه في العالم العربي في سوء الإدارة والفساد والانتهاكات والارتهان للخارج.


وإلى كل مآسي وخطايا الماضي، تُضاف الهموم الجديدة على مستوى الإقليم والدول معاً. فالهم العربي الرئيس في العقدين الأخيرين لم يعدِ النزاع العربي الإسرائيلي بقدر ما بات تورُّم إيران وتدخلها الأهوج في شؤون دول المنطقة منذ الثورة الإسلامية عام 1979 ومشروع تصديرها الذي سعَّر الأصولية الدينية، وأخرج التشدد السني العنيف من القمقم ونشر ظاهرة الإرهاب. لعبت إيران طوال العقود الماضية دوراً كبيراً في حرف الأنظار عن القضية الفلسطينية، بل خلقت واقعاً جديداً قوامه وجودها المهدّد لأمن الإقليم وزعزعتها لأوضاع بلدانه الداخلية لا سيما العراق وسوريا واليمن ولبنان وحتى فلسطين، إلى حد بات معه الانقسام الفلسطيني غير قابل للحمة أو تسوية وأعطى حجة لإسرائيل للتملص من كل مشاريع الحلول وإجهاضها. تحولت إيران بالنسبة إلى أوساط وازنة في العالم العربي إلى إسرائيل جديدة تهدد هويتها، لا بل فاقتها في تشددها الديني وطموحاتها التوسعية، ونجحت فيما لم تستطع إسرائيل تحقيقه منذ إنشائها: تفكيك العالم العربي وشرذمت قواه ورميه في أتون الفتن الداخلية التي حوّلت بعضاً من دوله إلى دول فاشلة.


يبقى أن صفقة القرن بالشكل والمضمون اللذين أعلنت فيهما تشي مرة جديدة برغبة الولايات المتحدة في الانسحاب من المنطقة وباضطراب سياستها الخارجية تجاهها، تجلياً، أولاً في مواقفها من الثورة السورية بخاصة والربيع العربي بعامة، وأخيراً في هذا الإعلان. لكن ما يصعب استيعابه هو كيف توفّق واشنطن بين سياسة تطويق إيران وتطويعها وتقديم وقود حقيقي لها ولأذرعها اسمه «صفقة القرن» يعطيها متنفساً لتستعيد قواها في مرحلة بدأ نفوذها وطغيانها في المنطقة يشهدان تراجعاً، خصوصاً في العراق ولبنان مع الاحتجاجات الشعبية المناهضة لها؟


على أي حال وحتى الساعة، يبدو أن صفقة القرن لا تعدو كونها تثبيتاً للاستاتيكو القائم بين إسرائيل والفلسطينيين بغطاء أميركا ومباركتها لا أكثر. المهم ألا نضيّع البوصلة وألا ندع دخان هذه الصفقة يحجب محطات رئيسة ستشهدها السنة الجارية إيران والولايات المتحدة وإسرائيل، محطات قادرة على صناعة أحداث في المرحلة المقبلة تغير الواقع: تحل في شهر فبراير (شباط) المقبل ذكرى مرور 41 عاماً على الثورة الإيرانية، فكيف سيكون إحياؤها في ظل الامتعاض الداخلي والحراك الشعبي الذي يؤرّق المسؤولين الإيرانيين؟ وننتظر في الشهر نفسه استحقاق الانتخابات التشريعية الإيرانية، وأيَّ تأثير سيكون لنتائجه على الحياة السياسية الداخلية وأداء إيران الخارجي، علماً بأن أي متغير في إيران سيطال دون أدنى شك حلفاءها في المنطقة.


في المقبل من العام أيضاً، نترقب ما ستؤول إليه إجراءات محاكمة الرئيس ترمب وبعدها الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. أما في إسرائيل، فننتظر ما سترسو عليه نتائج جولة الانتخابات الثالثة، وإذا ما كانت تل أبيب ستصحو من سكرة صفقة القرن لتعي خطورة انتشار إيران وحلفائها على حدودها كافة، في ظل محاولات الإدارة الأميركية الحثيثة الانسحاب من المنطقة.
صفقة القرن ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في تاريخ النزاع الطويل. يبقى الأمل في وعي وسلوك فلسطيني وعربي استراتيجي، يصوّب المسار ويعيد إلى العرب القدرة على المبادرة في قرار السلم والحرب، وإنهاء أي اختراق خارجي لحقوقهم السيادية.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«صفقة القرن» مرآة لأحوال متردية «صفقة القرن» مرآة لأحوال متردية



GMT 14:04 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 11:55 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الكميت بن زيد والأعشى

GMT 07:10 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

قتلوه... قتلوه... قتلوه لقمان محسن سليم شهيداً

GMT 22:33 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

كيم وكيا، فوردو وديمونا، نافالني وفاونسا؟

أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 21:54 2018 الأربعاء ,30 أيار / مايو

تعرف على "أهل الدثور" وأسباب دخول الجنة

GMT 10:07 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

Incredible Things عطر ساحر من نفحات الأخشاب الطبيعية

GMT 18:46 2021 السبت ,09 كانون الثاني / يناير

صلاح يفك عقدة لازمته منذ 2014 في كأس الاتحاد الإنجليزي

GMT 21:25 2018 الجمعة ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

"كلام ستات" يناقش مبادرة "بدّلها بفضة" لتسهيل الزواج

GMT 02:06 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على أفخم الفنادق في مدينة هونغ كونغ الصينية

GMT 04:13 2018 الخميس ,21 حزيران / يونيو

"ديكورات" مشرقة في شقّة جون بون جوفي الـ"دوبلكس"

GMT 01:13 2018 الأربعاء ,20 حزيران / يونيو

أبوالفتوح تكشف فوائد تناول الردة خلال الوجبات

GMT 03:36 2018 الأربعاء ,06 حزيران / يونيو

تناول المكسرات يساعد على استقرار مستويات السكر

GMT 01:21 2018 الثلاثاء ,15 أيار / مايو

شاكيرا تستعد لإحياء حفلة غنائية في إسرائيل

GMT 22:07 2014 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

سائق حافلة ركاب في إسبانيا يرفض صعود منقبة للحافلة

GMT 00:14 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

سعر الريال السعودي مقابل دينار كويتي الجمعة

GMT 05:14 2017 الأحد ,10 كانون الأول / ديسمبر

تعاون "فوكس" و" ديزني" يكشف عن تقاعد "مردوخ" أم خطة جديدة

GMT 12:17 2017 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاح استئصال ورم من بطن سيدة في جازان وزنه 5 كيلو جرام

GMT 07:35 2017 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

سلام العمري تبدع في صناعة الشموع بطرق مختلفة جذابة
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq