ظهر مفهوم «الهلال الشيعي»، بوصفه تجسيداً لطموحات إيران في إحكام سيطرتها الإقليمية في شرق المتوسط، خصوصاً في تمددها عبر جوارها في الغرب: انطلاقاً من العراق، مروراً بسوريا، وصولاً إلى لبنان. وقد تجاوز المفهوم حدود الطموحات إلى الواقع العملي في سياسات إيران نحو جوارها، بل يمكن القول إن المفهوم تطور أساساً على هامش سياسة إيران في شرق المتوسط، التي شهدت تغيراً عميقاً بعد مجيء الملالي، بزعامة الخميني، إلى السلطة عام 1979، بعد إسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي.
كانت الخطوة الأهم في تغييرات السياسة الإيرانية في شرق المتوسط انفتاح الحكم على الفلسطينيين، فاستبدلت السلطة الجديدة بعلاقات النظام السابق مع إسرائيل علاقة من الفلسطينيين، وتحول مقر السفارة الإسرائيلية في طهران إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية. واحتل نظام الأسد مكانة الأفضلية في علاقات إيران الخارجية، ونشطت سياسة طهران في لبنان الذي يضم أقلية شيعية هي الثانية في لبنان، وأنشط الأقليات الشيعية في البلدان العربية، وصار العراق إلى المقدمة في سياسة إيران، التي كانت تعتمد في حينها فكرة تصدير الثورة نحو محيطها القريب، خصوصاً أن العراق يضم أكثرية شيعية بين سكانه.
رسمت سنوات الملالي الأولى ملامح السياسة التي نتابع نتائجها اليوم في شرق المتوسط. فقد عززت إيران حضورها في لبنان، بإحكام سيطرتها على حركة أمل التي أسسها موسى الصدر، ثم قادها نبيه بري، بعد اختفاء الصدر عام 1978، ثم عملت على توليد قوة سياسية - عسكرية مسلحة بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وصلت إلى إعلان «حزب الله» اللبناني عام 1985، وكرست حسن نصر الله على رأس الحزب في عام 1992، وهو الذي أعلن نفسه وكيلاً للمرشد العام الإيراني. وبواسطة تحالف بري ونصر الله، أحكمت إيران قبضتها على لبنان، وصارت صاحبة القرار فيه، عبر سياسة الترغيب والترهيب.
وذهبت طهران في سياستها السورية نحو توثيق علاقاتها مع نظام الأسد (الأب)، عبر سياسة الدعم المادي والسياسي، مقابل تأييدها في الحرب على العراق، فأغرقت النظام بالمساعدات، وفي مقدمتها النفط، وشكلت داعماً قوياً لسياسته الإقليمية، خصوصاً في الصراع العربي - الإسرائيلي، مما سمح لها بوضع أسس لتمدد مذهبي وثقافي واقتصادي في سوريا، وساهم في تطور كبير لعلاقات إيران معها بعد مجيء الأسد (الابن) للسلطة عام 2000، تمهيداً لتحول سوريا إلى محمية إيرانية، عبر امتدادات بشرية وطائفية وسياسية واقتصادية وعسكرية، بعد ثورة السوريين على النظام عام 2011. وصارت طهران مع موسكو صاحبتي أكبر تأثير في القرارات السورية.
أما في موضوع سياسة إيران العراقية، فبدأ بعد ثورة الملالي تصعيد صراع وخلاف مع العراق، أدى إلى حرب مدمرة بين البلدين انتهت بهزيمة إيران، ولم يستفد نظام بعث العراق من دروسها، فاندفع إلى حروب لاحقة بدأت باحتلال الكويت، مما أدى إلى تحالف دولي ضده انتهى بإسقاط النظام، وتولى آنذاك عملاء إيران زمام السلطة هناك، من خلال الحكومة والأحزاب والميليشيات والجيش، بدعم مباشر من المخابرات الإيرانية الحاضرة في غالبية مناطق العراق، وفي معظم أجهزته ومؤسساته.
ووسط صورة الحضور والسيطرة الإيرانية في الدول الثلاث، يمكن فهم التصريحات المتعددة الصادرة عن مسؤولين إيرانيين عن تأكيد سيطرة إيران على البلدان الثلاثة، إضافة إلى سيطرتها على الفصائل الفلسطينية المسلحة، لا سيما حركتي «حماس» و«الجهاد»، مما يعني أن «الهلال الشيعي» أصبح «حقيقة واقعة»، في تعبيره عن علاقة إيران بالمنطقة، وأن هذه البلدان لم تصبح فقط تحت السيطرة الإيرانية، بل صارت جزءاً من جبهة المواجهة مع خصوم إيران ومعارضي استراتيجيتها في المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
وتشمل جبهة المتضررين من سياسات إيران شعوب كل من العراق وسوريا ولبنان والفلسطينيين، التي تسللت إيران مباشرة، أو عبر أدواتها المحلية، أو بالحالتين معاً، بما فيها الحكومات القائمة، لإحكام قبضتها على تلك البلدان، ومقدراتها البشرية والمادية، الظاهرة والكامنة، وهذا ما تم القيام به في البلدان الثلاثة. كما تشمل الجبهة أغلب دول المنطقة، التي تأذت من سياسات إيران على مدار العقود الماضية، خصوصاً لجهة تدخلات نظام الملالي في شؤونها الداخلية، عبر إثارة النعرات الطائفية بين جناحي الإسلام من السنة والشيعة، وادعاء إيران أنها تمثل مرجعية الشيعة، وعبر مطامع إيران بأراضي الدول المجاورة في الخليج، خصوصاً في البحرين، ومن خلال تكريس احتلالها ثلاث جزر إماراتية منذ عام 1969، وعبر تعزيز سياسة المحاور، وتصعيد الصراعات البينية بين دول المنطقة.
ويتجاوز البعد الإقليمي صراعات إيران مع البلدان العربية، ليشمل بلداناً أخرى ذات تماس مباشر مع العرب، كما هي حال تركيا وإسرائيل اللتين تتجنب إيران الدخول في اشتباك مباشر معهما، وإن كان ذلك لا يمنعها من التحرش بهما، على نحو دفعها عملاءها إلى تأسيس «حزب الله التركي»، ودعمها «حزب العمال الكردستاني» في تركيا (PKK)، واتباعها استراتيجية في تمزيق المنطقة، بالتوازي مع ما تقدمه إيران من دعم متعدد للتنظيمات الإسلامية في فلسطين، خصوصاً لحركتي «حماس» و«الجهاد»، ودعمها «حزب الله» اللبناني الذي أصبح أداة إيران في صراعاتها الخارجية، تحت لافتة العداء لإسرائيل.
إن الأهم في البعد الدولي لصراعات إيران يتمثل في مشروعها النووي، وفي تطويرها صناعات عسكرية، بينها المجموعات الصاروخية. وقد سعت المجموعة الدولية «5+1» إلى الحد من طموحات إيران النووية، عبر اتفاق بين المجموعة وإيران، لكن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق أعاد إلى الواجهة صراع إيران مع القوى الدولية، الذي نجد له تعبيرات في عقوبات وحرب إعلامية وتحشدات سياسية وتماسات عسكرية، خصوصاً في الخليج.
ووسط لوحة واسعة من صراعات إيران المتعددة المستويات، تتوالى تحركات شعوب سوريا والعراق ولبنان نهوضاً في وجه السلطات الحاكمة، بما تمثله من أنظمة ديكتاتورية مستبدة فاسدة مرتبطة بإيران واستراتيجيتها في المنطقة، وهي تحركات تتجاوب في مضمونها مع التحركات الأخيرة للإيرانيين في مواجهة سلطة الملالي، ومطلبها الرئيس إسقاط النظام الحاكم، مما جعل نظام الملالي بإيران، وأدواته من حكومات دول، هدفاً لتحركات عموم شعوب شرق المتوسط.
إن صعود شعوب شرق المتوسط في مواجهة إيران وأدواتها بات يتطلب مواقف حاسمة ضد إيران وأدواتها والأنظمة المرتبطة بها، ليس انتصاراً للنضال من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان فقط، بل دعماً وتأييداً لنضال الشعوب في مواجهة إيران وسياساتها وتدخلاتها في شؤون دول وشعوب المنطقة والعالم؛ لقد بات من المطلوب تغييرات جوهرية إقليمية ودولية، تتجاوز ما تم اعتماده من سياسات حيال العراق وسوريا ولبنان في أوقات سابقة.