بقلم : فايز ساره
للمرة الأولى في تاريخ مهرجان كان السينمائي، تضمنت قائمته لترشيحات جوائز الأوسكار عن الأفلام الوثائقية فيلمين سوريين، كان حضور السوريات فيهما واضحاً، بصورة لم يسبق لها أن ظهرت. الفيلم الأول اسمه «الكهف» The Cave من إخراج فراس فياض، وكُتب نصه بالتشارك بين فراس فياض واليسار حسن، وقامت ببطولته الطبيبة أماني بالور، والفيلم الثاني «من أجل سما» FOR SAMA، وقد تشارك في إخراجه كل من وعد الخطيب والبريطاني إدوارد واتس، والبطولة الرئيسية فيها للطبيب حمزة الخطيب، والفيلمان إنتاج عام 2019. ولهما موضوع مشترك، حيث يغطيان نشاط كادر طبي في معالجة السوريين تحت الحرب والحصار، الأول في غوطة دمشق، والثاني في شرق مدينة حلب، ونقطة التقارب الأخيرة التي تستحق الإشارة إليها، قول إن النساء هن غالبية من ظهر في الفيلمين.
تشكل الحالة رغم أهمية الجوانب الأخرى، مثالاً مهماً عن اقتحام النساء لمواقع عمل كان يحتكرها الرجال في العادة، لكنها في الأبعد من هذا التفصيل، فإنها مظهر في الحاضر السوري الراهن الذي صارت النساء بين أهم ملامحه. بل المعلم الرئيسي الظاهر في حياة السوريين داخل سوريا وخارجها، ولو في ظل تمايزات محدودة، ذلك أن ظهور النساء ودورهن في مناطق سيطرة النظام، هو الأكثر وضوحاً، وفي المناطق خارج سيطرته أقل، فيما يبدو الأمر في بلدان الشتات في المنطقة الوسطى بين الحالتين السابقتين.
وتحتاج عمومية ظهور السوريات ودورهن في المشاهد الثلاثة إلى شروحات سريعة لتلمسها عبر معطيات ووقائع؛ منها القول إن طغيان حضور النساء في مشهد مناطق سيطرة النظام مرتبط ببعض تفاصيل أفرزتها سياسات النظام من جهة، والصراعات المسلحة المتواصلة في البلاد من جهة أخرى، وفي الحالتين جرى قتل واعتقال وتشريد ملايين من السوريين، وكانت نسبة الرجال والشباب النسبة الأعلى ممن قتلوا ومن الذين اعتقلوا أو اختفوا قسرياً ومن الذين هجروا، ويضاف إليهم الذين فروا خوفاً من التجنيد الإلزامي أو الاحتياطي، وكلها أسباب في اختلال نسبة الجنسين من تعداد السكان السوريين وغلبة النساء فيهم.
وكان من الطبيعي، أن يفرض هذا التغيير نفسه في عموم المجتمع، فيبدل ليس فقط في دور المرأة والرجل، بل في نشاطات كل منهما ومساهماته، وأن يترك أثراً في تبدل المفاهيم والعادات والتقاليد وأنماط العيش وطابع العلاقات البينية، مقارنة بما كان حاضراً وسائداً في ظل الحضور الأوسع للرجال قبل عام 2011.
ففي ظل فقدان الأسر للمعيلين من الرجال، بدا من الطبيعي، أن تتقدم نساء للقيام بهذا الدور عبر الانخراط في سوق العمل، بل والتنوع في الانخراط بما يتجاوز القطاعات، التي ساد فيها عمل النساء في السابق، والتي كانت تتركز في سلك التعليم والتمريض، وأقل منهما في قطاع الخدمات والشركات الصناعية، وباستثناء زيادة اشتغال النساء في القطاعات الأخيرة، فقد انخرطن في مهن وأعمال جديدة منها قيادة سيارات نقل البضائع والركاب، وورشات إصلاح الأجهزة الإلكترونية والكهربائية، ومحال بيع المفرق، وبسطات الشوارع، وصولاً إلى انخراط نساء في الميليشيات المسلحة، والتي شكلت ظاهرة في مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
ويتطلب انخراط النساء في سوق العمل وقطاعاتها المختلفة رفع قدراتهن من خلال المزيد من التعليم والتدريب واكتساب الخبرات والمهارات، وخاصة في القطاعات الجديدة التي يتوجهن للخدمة فيها، وهذا يؤثر على مستوى حضورهن في المؤسسات التعليمية والتدريبية وما يتصل بها من أنشطة.
ولأن فكرة الإعالة عند السوريين لا تتعلق فقط بتوفير الدخل المادي واحتياجات المعيشة، وإنما تتصل أيضاً بالحماية الاجتماعية للعائلة. وإذ أصبحت الأم في مكانة المعيل لغياب أو عطالة الرجل المعيل، فصارت تقوم بدور الأم والأب في آنٍ واحد، مما جعلها في الغالب تحوز سلطاته الاجتماعية أو بعضاً منها على الأقل، مما يعطيها الحق في اتخاذ قرارات، كانت في السابق من اختصاص رجل العائلة، مما قاد إلى تغيير وتبدل موضوعي في بعض القيم والأفكار والعادات. إن المثال الأبرز للتغييرات، هو انخراط السوريات الواسع في الحياة العامة ونشاطاتها المختلفة، وقد تضاعف مرات عما كان عليه قبل عام 2011، والقبول الواسع لمسؤولية النساء عن إعالة عائلاتهن.
ولا تختلف كثيراً - إلا بمقدار نسبي - حالة النساء في بلدان الشتات السوري عن واقعهن في مناطق سيطرة النظام، حيث يميل التركيب الجنسي إلى توازن بين النساء والرجال، وقد تزيد قليلاً نسبة الرجال، لكن ذلك لا يبدل من حقيقة الانخراط المتزايد للنساء في الحياة العامة، ولا سيما وجودهن في المؤسسات التعليمية وفي سوق العمل، وقيامهن بدور اجتماعي جديد، وما يرافق هذه الأنشطة من تغييرات على صعيد الأفكار والعادات والتقاليد المحكومة بقواعد المساواة بين الجنسين في بلدان اللجوء الأوروبية، حيث من السهل على النساء إثبات وتطوير حضورهن ومشاركتهن، أو أن تكون الحاجة العنصر الأساسي في هذه التحولات حسب ما يحصل في بلدان الجوار السوري، حيث يضطر المقيمون هناك على بذل كل طاقاتهم وقدراتهم من أجل استمرار حياتهم وتحسينها عبر توسيع مشاركة المرأة في العمل والمسؤوليات الأسرية والاجتماعية، وما يرافقها من تغييرات في الأفكار والسلوكيات.
لقد بدا التبدل في واقع النساء ومكانتهن في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في مكانة الوسط ما بين مناطق النظام وبلدان الشتات. فقد خضعت هذه المناطق لسلطات الأمر الواقع المسلحة، التي توالت هناك، وجزء كبير منها خضع لسيطرة تنظيمات «الجيش الحر»، التي وإنْ لم تكن موحدة ومتناسقة الرؤى والمواقف، فإنها كانت محكومة بشعارات الثورة الأولى عن الحرية ومشاركة النساء، لكن ذلك سرعان ما أخذ يتبدل مع إحساس تلك الجماعات بالسلطة التي صارت فيها، ثم تبدل أكثر مع تصاعد قوة ونفوذ الجماعات الإسلامية المسلحة، التي شرعت في محاربة تشكيلات «الجيش الحر» والاستيلاء على حواضنها الاجتماعية، وفرض مزيد من التشدد ضد النساء باسم الدين، وكان ذلك مقدمة لإحكام جماعات التطرف والتشدد من «داعش» و«النصرة» (فرع «القاعدة» في سوريا) قبضتهما على تلك المناطق، ودفع النساء للغياب بعيداً بما فيه غيابهن عن الأسواق إلا بشروط، مما أثر على دورهن في تلبية احتياجات أسرهن التي فقدت معيلها، وعجزهن عن تحسين مستويات الحياة من حولهن، بل ذهبت سياسات جماعات التطرف والإرهاب حيال النساء إلى الأسوأ بتحويلهن إلى سلع على نحو ما فعل «داعش» بالإيزيديات، وإخضاع الضعيفات منهن للاستغلال الجنسي على نحو ما كان يحصل في مخيم الأرامل في إدلب الذي كانت تديره «النصرة».
وإن بدا أن الخط العام لوضع السوريات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام على نحو ما أسلفنا، فلا بد من إشارة ولو سريعة إلى نموذج مختلف، ظهر في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي شكل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي نواتها الصلبة، حيث فسح مجالاً أوسع لمشاركة النساء وصولاً إلى تجنيدهن في القوات المقاتلة، لكن تلك المشاركة ظلت محكومة بنزعة من التشدد الآيديولوجي - القومي للحزب المسيطر، أكثر مما هي مشاركة مفتوحة ومتصلة باحتياجات الواقع.
خلاصة القول، إن السوريات وفي أتون الكارثة، التي سببها نظام الأسد وأنصاره في الحرب على السوريين، قد وُضعن أمام تحديات وأدوار جديدة في الحياة وفي مشاركة المجتمع وفعالياته، وقد تفاعلن بصورة إيجابية على وجه العموم، وسجلن نجاحات رغم كل آلام الواقع وفرضياته الاجتماعية والثقافية، وأحدثن تبدلات في قيم المجتمع وعلاقاته وعاداته وتقاليده، سيكون لها أثر إيجابي أوسع، عندما تتوقف آلة القتل، وتبدأ مرحلة إعادة بناء سوريا الجديدة من دون الأسد ونظامه.