بقلم : فايز ساره
يصنَّف التعفيش بين أبرز المصطلحات التي جرى تداولها وتكرست في سنوات ثورة السوريين ضد نظام الأسد، والمصطلح مشتق من كلمة «عفش»، التي تعني محتويات المكان من أثاث وتجهيزات وأدوات، إضافة إلى ما يمكن أن يحتويه من الأشياء الثمينة والأموال. والتعفيش أخذُ العفش بعد فرار أصحابه، وقد يكون أخذه بالقوة في حال وجودهم، ثم التصرف به من قِبل المعفّشين كأنه ممتلكاتهم. وقد اقترنت الظاهرة، التي كرّستها قوات النظام والميليشيات الحليفة، بإقامة أسواق لبيع الأشياء المعفَّشة. وتوالى ظهور هذه الأسواق في العديد من المدن بما فيها دمشق، والتي صارت منطقة السومرية قرب مطار المزة سوقها الرئيسية لبيع المفروشات والأدوات الكهربائية والإلكترونية وغيرها مما تم تعفيشه من دمشق وريفها.
ويستند المصطلح في واقعه الحالي إلى إرث يمتد إلى عقود، حيث تم تكريس معناه ومحتواه في الاستيلاء على ممتلكات المواطنين بعد فرارهم من بيوتهم ومحلاتهم والتصرف بها مع وصول حزب «البعث» إلى السلطة بعد انقلاب مارس (آذار) 1963، حيث تم الإعلان عن تشكيل ما سُمي حينها «الحرس القومي» بوصفه «قوات شعبية منظّمة ومدرّبة على استعمال السلاح»، أُعطيت في قرار تأسيسها مهمة «الدفاع المدني والدفاع عن البلاد في حالة الحرب أو وقوع اعتداء خارجي»، لكنّ المهمة الأساسية لهذه القوات كانت «المساهمة في حفظ الأمن الداخلي» و«القيام بالمهام التي يوكلها إليها المرجع المختص أو من يخوّله» بمعنى جعلها أداة في يد القيادة «البعثية، حسب مقتضيات مصالحها، وهذا ما تَجسّد فعلاً خلال تلك التجربة المأساوية، التي انخرط في تنظيماتها الأولى أعضاء في حزب «البعث» مع متطوعين، جاءت غالبيتهم من العاطلين عن العمل والوصوليين والانتهازيين والهامشيين في المدن، وقادمون من الأرياف فقراء بلا تعليم ولا تجارب.
وكان تأسيس «الحرس القومي» بحاجة إلى إشهار عملي، فأخذ منتسبوه يظهرون للعلن بمناسبة ومن دون مناسبة، وصار المنتسبون إليه يتجولون بلباسهم الأخضر وبسلاحهم في أغلب الأحيان، ويتدخلون في كل كبيرة وصغيرة، وصار حضورهم ينافس رجال الشرطة والأمن بدعوى أحقيتهم في الحفاظ على النظام والأمن، ودخلوا في سياق أعمال غير قانونية بينها اعتداءات على مواطنين وعمليات ابتزاز واعتقال وتعذيب وقبض رشى وفرض «خاوات» وغيرها من جرائم، كانت تتم في مقرات «الحرس القومي» وعلى الحواجز التي كانت تُنصب في بعض الساحات ومفارق الطرق.
غير أن الأهم فيما قام به «الحرس القومي» من عمليات، تَمثّل بمشاركته في التصدي للتحركات المناهضة للنظام، التي شهدتها البلاد في سنوات 1963 - 1965، حيث دفع النظام بـ«الحرس القومي» إلى جانب قوات الجيش في مواجهة تمرد الناصريين من شركاء «البعث» بقيادة جاسم علوان في حركة يوليو (تموز) 1963، والتي أسفرت عن قتل واعتقال مئات من العسكريين والمدنيين، وقد كلّف «الحرس القومي» في العامين التاليين بمواجهة التحركات الشعبية التي شهدتها حلب وحماة ودمشق في مواجهة نظام «البعث» رداً على سياسات النظام في الجانبين السياسي والاقتصادي، وكان الأهم في الأولى سياسة الاستفراد بالسلطة ومصادرة الحريات، وفي الثانية مصادرة وتأميم مؤسسات تجارية وصناعية، والتدخل الواسع في مسارات الاقتصاد، مما تسبب في اندلاع مظاهرات وإضرابات معادية للنظام منها انتفاضة حماة وامتدادها إلى دمشق في ربيع 1964، والتي دفع نظام «البعث» حرسه القومي للتصدي لها، وارتكاب كثير من جرائم القتل والاعتقال والتعذيب ومصادرة الممتلكات، قبل أن يشارك في التصدي لإضراب تجار دمشق وحلب ومدن أخرى أعلنت تضامنها مع انتفاضة حماة، فقام «الحرس القومي» باقتحام الأسواق التجارية وكسر أقفال المتاجر والمحلات فيها وسط إعلان الرئيس أمين الحافظ، بصفته الحاكم العرفي، في الثلاثين من أبريل (نيسان) عام 1964، إنذاره القاضي بـ«مصادرة المحلات المُضربة، وتحويل ملكيتها للدولة، إذا وُجدت مغلقة بلا مبرر قانوني»، وإحالة ملّاكها «للمجلس العرفي العسكري بتهمة التخريب والإخلال بالأمن وزعزعة الثقة العامة»، وقد تكرر السيناريو بصورة موسعة مع بداية عام 1965 في انتفاضة دمشق، التي شهدت إضراباً عاماً في المدينة ومواجهات واسعة، كان أهمها في حي الميدان، شارك «الحرس القومي» إلى جانب جيش النظام في التصدي لها، وجرى كسر أقفال المحال التجارية وسرقة محتوياتها ومصادرة العديد منها وإحالة بعض أصحابها إلى المحاكم الاستثنائية والحكم على بعضهم بالإعدام، كما جرى خلالها اقتحام الجامع الأموي بدمشق.
ولأن أسس نظام «البعث» في مرحلته الأولى لـ«التعفيش» عبر التعدي على ممتلكات المواطنين السوريين بانتهاكها وسرقتها أو مصادرتها على يد حرسه القومي، فقد ذهب النظام في عهد الأسد الأب إلى إدخال الجيش على الخط، وتحويل «التعفيش» إلى سياسة رسمية، يقوم الجيش بممارستها في سوريا وخارجها، وكانت البداية خلال دخول القوات السورية إلى لبنان في عام 1976، حيث مارس ضباط الأسد وجنوده عمليات تعفيش ممتلكات اللبنانيين وما وقع في طريقهم من بيوت ومحال ومصانع وشركات كان أصحابها قد غادروها خوفاً وهرباً، فسرقوا كل ما وصلت إليه أيديهم، وفي أحيان كثيرة استولوا على ممتلكات حوّلوها لعشرات السنين إلى مقرات لهم وأماكن سكن، وكان من السهل رؤية الأثاث والأجهزة الكهربائية المعفَّشة من لبنان برفقة قوافل مبيت العسكريين السوريين القادمين من لبنان، وربما كان مشهد خروج القوات السورية من لبنان عام 2005 يمثل أحد أبرز تلك الصور.
وسط التاريخ الممتد ما بين دخول وخروج القوات السورية من لبنان (1976 - 2005) سجّل جيش الأسد تجاربه الأولى في تعفيش المناطق السورية في فترة المواجهات المسلحة بين النظام والجماعات الإسلامية المتطرفة (1979 - 1982)، حيث زجّ الجيش في عمليات متكاملة، شملت حصار مدن وقرى وتفتيشها من جهة، والدخول في مواجهات مع الجماعات المسلحة وصولاً إلى اجتياح مناطق وجودها من جهة أخرى، وفي الحالتين ارتكب جيش الأسد جرائم وحشية، كانت بينها جريمة تعفيش ممتلكات السوريين تحت شعار الحرب على الجماعات المسلحة، والتي تماثل ما قام به طوال السنوات الثماني الماضية من جرائم، تتم تحت يافطة محاربة الإرهابيين.
لقد مرر نظام «البعث» في مرحلته الأولى عبر ميليشيات «الحرس القومي» فكرة الاعتداء على ممتلكات السوريين وتعفيشها واستباحة حقهم في حمايتها ضمن انتهاكه لحقوق الإنسان، ثم ذهب إلى الأبعد في مرحلة حكم الأسد الأب في أن جعل الجيش يقوم بالمهمة، مهيِّئاً لقبولها داخلياً عبر بدء تطبيقها في لبنان، ومارسها على نحو واسع وخصوصاً في محافظات الوسط السوري من حلب شمالاً إلى إدلب وحماة وحمص، ثم جاءت النقلة الثالثة في عهد الأسد الابن الذي جمع معاً التجربتين السابقتين، وأضاف إليهما بصمته في خلق أدوات متعددة لارتكاب الجرائم، شاملاً في ذلك جيش الأسد وميليشيات متعددة أسّسها أو كلّف نافذين من مؤيديه بتشكيلها، قبل أن يضم إلى هذه الشبكة ميليشيات إيران، وقد تشاركت جميعها - ولو بسويّات متعددة - في ارتكاب جرائم تعفيش ممتلكات السوريين في كل المناطق التي حَلّت فيها.
غير أن الأخطر فيما تركته التجربة المرة التي أسسها «البعث» وطوّرها في التعفيش، أنه خلق أرضية استغلّتها جماعات التطرف والإرهاب والجماعات الإسلامية المسلحة للاستيلاء على ممتلكات السوريين وسرقتها تحت ما تسميها «الغنائم»، وهي سياسة تعفيش لا ولم تقتصر على ممتلكات المواطنين فقط، بل شملت تعفيش ممتلكات الدولة والمجتمع ومنها محطات الطاقة وقضبان سكك الحديد وأعمدة وأسلاك شبكات الكهرباء إلى جانب محتويات المؤسسات العامة.