الثوار الشباب يجتازون سنتهم الأولى وهناك، رغم التضحيات، نتائج سياسية مهمة حيث أصبحت المعارضة الشعبية ضد سلطة الأحزاب الفاسدة تياراً واسعاً في مفصل سياسي مهم بعد تولي مصطفى الكاظمي السلطة.
ثورة شباب العراق في الأول من أكتوبر 2019 لم تحصل مقطوعة عن حركة الرفض الشعبي لحكم الأحزاب الطائفية الفاسدة، أو نتيجة عرضية لهبّة شباب مُحبط من البطالة ومن مختلف جوانب الحياة الصعبة التي يواجهونها وآباؤهم وأمهاتهم بسبب نهب خيرات البلد وأمواله، فقد انتفض أبناء المحافظات الأكثر تضرراً من سياسات القتل والاختطافات والتغيير الديموغرافي تحت شعار طائفي “يجب على الحكام الشيعة تدمير السنة”، وتحوّلت ثورة الشباب خلال أشهر قليلة إلى ثورة استعادة العراق المختطف من إيران على يد وكلائها.
رغم عدم إيماننا بالتوصيف الطائفي، إلا لتقريب صورة حيثيات الواقع الراهن، فقد استطاعت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي إيهام الجمهور الشيعي في السنوات القليلة الأولى بعد عام 2003، بأنها جاءت لتخليصهم من ظلم السنة الذين حكموا 1450 سنة بلدان العرب والمسلمين وبينها العراق، وجاءت اللحظة التاريخية التي يحكم فيها أولوا الأمر الشيعة “الفرس” تلك البلدان، وفق نظرية أن لهم الحق بإدارة العالم الإسلامي بعد مرحلتي حكم العرب والعثمانيين، وهم يبدأون من العراق ثم سوريا ولبنان واليمن لتطويق بلدان الخليج.
وجد وكلاء ولي الفقيه في العراق أن تثبيت الحكم الجديد يتطلب تنفيذ مشروع سحق الاحتجاجات الصادرة من المحافظات الموصوفة بالسنيّة، بالتحالف الشرير مع قوات الاحتلال الأميركي التي شرّعت قوانين “مكافحة الإرهاب” لحماية وجودها من المقاومة العراقية المسلحة، ثم وجدت الأحزاب الإسلامية الحاكمة في هذا القانون فرصة لسحق الاحتجاجات المدنية السلمية التي انطلقت في تلك المحافظات خصوصاً الأنبار، وتم شراء وجوه سنية خدمت قوات الاحتلال تحت عنوان “الصحوات” ثم لفظتهم في عهد المالكي.
الإسلام السياسي، بجناحيه الشيعي والسني، تعاون في تثبيت أركان الحكم الجديد وقمع معارضيه بتوجيه مباشر من طهران، فتسللت قوى “الإسلام السياسي السني” وبعض رموزها الذين كانوا مشاركين في الحكم إلى حركة الاحتجاجات في الأنبار، وتم دفع بعض فلول بقايا القاعدة رافعي “الراية الإسلامية المتطرفة” والذين سمّوا أنفسهم في ما بعد “داعش” إلى صفوف تلك الاحتجاجات، وكانت الخطة تتطلب تصدّر رئيس الوزراء حينذاك نوري المالكي لحملة التصفية الدموية للسنة تحت عنوان طائفي أحرج قيادات الإسلام السني “الحرب هي ما بين جيش الحسين وجيش يزيد”، مستكملاً مجازره الدموية في مواقع أخرى كمدينة الحويجة في محافظة كركوك الشمالية.
كان إدخال “داعش” المرحلة الأكثر خطورة في هذا المشروع، تعدّت المحافظات الغربية لتشمل كلّ العراق حين هُيئت للتنظيم المتطرف المستلزمات اللوجستية لاحتلال الموصل رأس العراق ورمز صموده التاريخي ضد الاحتلال الفارسي. ونُفذت حمامات الدم ضد أبناء الموصل حيث هُدّمت معالمها وبيوت أهلها تحت العنوان “المدبّر” داعش.
وهنا حصل الانقلاب التاريخي في معادلة الهجوم الوحشي، الذي بدأ بالارتداد على أصحابه منذ عام 2014، الذي لم يتوقف عند حدود طرد المرتزقة حاملي شعار “الإسلام المتطرف” من العراق وإنما في دخول المواجهة المباشرة ما بين قيادة الحكم الفاسد وبين الجمهور “الشيعي” في محافظات الوسط والجنوب، في ثورة الشباب التي تصاعدت في الأول من أكتوبر 2019، ومظاهر الرفض تمثلت بشعارات إزاحة الأحزاب الإسلامية وتخليص العراق من الاحتلال الإيراني “إيران برّة برّة بغداد تبقى حرة” ثم حرقت مقرّات تلك الأحزاب.
بدت المظاهر تشير إلى صمت أبناء المحافظات العربية السنية عن المشاركة الفعلية في هذا الفصل الاحتجاجي المتنامي من ثورة الشباب، لكنه في الحقيقة توزيع أدوار غير مباشرة، وكأن حال أبناء تلك المحافظات يشير إلى فترة أخذ قسط من اتقاء شرّ النار الطائفية. فيما عبّر شباب الجنوب في الناصرية ذات الرمز التاريخي في الوعي السياسي المبكر والإبداع والبصرة وكربلاء إضافة إلى العاصمة بغداد عن عزم ثوري متواصل رغم تضحيات الدماء العزيزة التي تجاوزت 800 شاب وشابة إضافة إلى أكثر من 25 ألفا ما بين جريح ومعوق بسبب الاستهداف المباشر من قبل الأجهزة الأمنية المتورطة والميليشيات الإيرانية.
حاولت الأحزاب الإسلامية في المرحلة الأولى تنفيذ مشروع القتل عن طريق الأداة الحكومية بقتل الشباب المتمثل برئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، الذي نفذّ الصفحة الأكثر دموية ضد الشباب ورمزه الضابط جميل الشمري “جزار الناصرية” حيث حاولوا تهريبه خارج العراق بعد أن حوصر بالقصاص العادل، وحين عجزت تلك الأحزاب بعد نجاح الثوار في إزاحته عن السلطة ومجيء مصطفى الكاظمي، لجأت إلى أساليب المافيات في حملات اختطاف أبرز الناشطين في البصرة والناصرية وبغداد واستهداف المسعفين من أطباء وصيادلة، وأعتذر عن ذكر بعض الأسماء وإهمال أخرى فجميع شهداء الانتفاضة في مرتبة الشرف عند العراقيين.
إلى جانب هذه المرحلة الدموية، الأكثر شراسة، لم تنجح عمليات تسويق الحملات الإعلامية الرخيصة متعددة الاتجاهات، فمن جهة تصف الثائرين بـ“الجوكرية” وعلاقتهم بالسفارة الأميركية أو البعثيين، ومن جهة أخرى تدفع بعض المرتزقة ممن ينتسبون زوراً للطائفة السنيّة من ناقصي الجاه والمال لتصدر المشهد الإعلامي ودعوتهم للمهادنة والسلام خوفاً من ضياع الحكم، وآخرون من دعاة الميليشيات الموالية لإيران يحذّرون من حرب شيعية – شيعية، ومن نهاية محتومة لثورة أكتوبر، وهذه آخر ما تمتلكه الأحزاب التي وصلت إلى الفصل الأخير من عمرها في التسلط على العراق.
وباء كوفيد – 19 العدو الأول للإنسانية في هذا القرن، هو الصديق الأول للأحزاب وللميليشيات، حيث فرضت وسائل الوقاية من انتشار هذا الوباء عقبات أمام التجمهر المكثف في الساحات، لكن الثورة الشبابية لا يعوقها هذا المانع، ووسائل العصر التكنولوجية في التواصل الاجتماعي قادرة على تجاوز هذا النقص في التجمهر المُكثف، وأمثلة نجاح ثورات مصر والجزائر والسودان تدّل على ذلك رغم عدم وصول ثورة السوريين إلى الانتصار بسبب حماية قيصر الكرملين من عدم سقوط نظام بشار.
الأحزاب وميليشياتها لا تستسلم بسهولة للثوار لأنها تعرف أن فاتورة الحساب كبيرة على جرائم القتل ونهب أموال العراق، لهذا تسعى إلى تنفيذ ورقة جديدة لتعطيل ماكينة الثورة وذلك عبر محاولة إدخال عناصر مدسوسة من الميليشيات وتوابع الأحزاب داخل صفوف الشباب في ساحات التجمهر الرئيسية في بغداد والناصرية والبصرة من أجل خلق صدامات مفتعلة تبيح الفرصة لقمع جديد وتحت شعارات تلائم الظرف، لكن الشباب الواعي لا بد وأنهم مدركون لما يحاك ضدّهم.
يجتاز الثوار سنتهم الأولى وهناك، رغم التضحيات، نتائج سياسية مهمة حيث أصبحت المعارضة الشعبية ضد سلطة الأحزاب الفاسدة تياراً واسعاً في مفصل سياسي مهم بعد تولي مصطفى الكاظمي السلطة وهو الذي يعلن انحيازه إلى جانب الثوار وحمايتهم، وهي السياسة الأكثر خدمة التي يلتزم بتقديمها لهم.
رغم عتمة السواد الذي خيّم على العراق منذ عام 2003 وإلى حد الآن، فإن ثورة شباب أكتوبر شعلة ضوء للمستقبل، فهم صانعوه وسينضمّ قادة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي والسني إلى قوائم الخونة والعملاء والقتلة والفاسدين ويعود العراق إلى أهله الحقيقيين.