تحويل المواطنة من شعار إلى واقع يتطلب إعلاما عراقيا مستقلا عن الأحزاب الدينية والمذهبية يعزز المواطنة العراقية وإصدار قوانين وقرارات سريعة لإقصاء الفكر الطائفي ومنع القنوات الفضائية المروجة له.
المواطنة والعراق أولا، شعاران تكررا في خطابات مصطفى الكاظمي المباشرة مع الجمهور، في الأيام الأخيرة، وذلك بعد الاستنتاجات الفردية التي توصل إليها، بعيدا عن الإملاءات الحزبية. ولأنه مستقل وجد في شعارات الوطن والمواطن، التي غابت لسنوات عن المشهد السياسي العراقي، ضرورة تجتمع عندها مسؤولية الدولة والمجتمع معا، حيث حرص على ذلك خلال لقاءاته الميدانية مع رموز الوجع العراقي، ضحايا داعش وضحايا الميليشيات، وأخيرا في لقائه المباشر في ميدان التحرير ببغداد مع مجموعة من شباب الحراك الشعبي خريجي الجامعات العاطلين عن العمل.
لا نريد الحكم على نوايا الكاظمي، حتى وإن كانت دعائية. من حقه أن يسوق لنفسه بين العراقيين، خاصة إذا ما ارتبطت شعاراته بالعمل الواقعي الجاد، وتجاوبت مع مطالب الثورة العراقية الشعبية. وإنصافا نقول، لأول مرة منذ عام 2005 يعلن رئيس وزراء عراقي عن طموحات خارج الإسلام السياسي، الذي سقط وانهزم في العراق بسبب سلوك أعمدته الغارق بالفساد والمرتهن للخارج.
ثمة أسئلة فكرية سياسية على صلة برفع شعاري المواطنة والعراق أولا، تنطلق من المفهوم الليبرالي الذي يتبناه الكاظمي وسط عداء ومعارضة عنيفة، قد تصل إلى حد التصادم مع شبكة حيتان الفساد والعمالة المتحكمة في العراق، والتي لن تغادر مواقعها بشعارات ناعمة مضادة، متعاطفة مع الشارع العراقي الغاضب.
المواطنة تقوم على أسس الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي نصّت عليها المواثيق الدولية ونادت بها الدّيانات السماوية، مواطنة المواطن الذي هو مصدر السلطات ومنبع الإرادة المجتمعية، مواطنة التسامح والتفاهم والتعاضد مع الآخرين، مواطنة الرفض التام لأي إقصاء أو تعصُّب أو اعتداء على حقوق الآخرين.
من متطلبات المواطنة سياسيا قبول التعددية والآخر السياسي، وليس الاستبداد وسياسة قمع الرأي الآخر.
أليست من أولى متطلبات المواطنة أن تحمي الحكومة، بحكم وظيفتها، الفرد ليعيش في وطنه حرا آمنا بلا خوف من رصاصة تخترق جسده، لمجرد أنه قال كلمة حق تجاه وطنه المختطف، أو من جلاد ينتظره أمام بيته لاختطافه إلى مكان مجهول، لأنه ابن المدينة التي تحررت من داعش، أو لأنه لم يقدم “الدّية” المالية لهذا أو ذاك من عصابات الميليشيات المستوطنة في أراضيه غصبا وبقوة السلاح.
هل يمكن تحقيق شعار المواطنة في ظل انعدام العدالة وغياب الحقوق الفردية والجماعية. يسرق الجهلة من منتسبي الأحزاب الحاكمة المستبدة الوظائف خاصة العليا من دون وجه حق، في وقت يعيش فيه الآلاف من خريجي الجامعات بلا عمل، ولا يُترك مفصل من مفاصل الكسب في الدولة إلا ويستثمر لصالح المنتسبين والمريدين والموالين، وفي مقدمتهم قادة ومسؤولي الميليشيات، إضافة إلى الهيمنة على جميع المرافق التي تدر عليهم وعلى أحزابهم كسبا ماديا كبيرا أو صغيرا، والتي تشكل مصدر تمويل لهم وتدعم استمرار هيمنتهم.
مثال واحد من آلاف الأمثلة، التي تشير إلى انعدام العدالة وحقوق المواطنة في الأجهزة الحكومية، حصل ويحصل لعدد كبير من المواطنين، حيث يتم منح الآلاف من الموالين للأحزاب صفة “الفصل السياسي”، الذي مورس عليهم خلال فترة حكم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وما يلحق بذلك من مكسب العودة للوظيفة الحكومية. وأنشئت لهذا الغرض مؤسسة سميت بـ”الشهداء” سادها الفساد، باعترافات رسمية.
وشكلت لجنة في مجلس الوزراء سميت “لجنة التحقق من المفصولين السياسيين”، هي في حقيقة الأمر لجنة إقصاء واعتداء على حقوق غير الموالين، لا تعترف بأي موظف عارض نظام صدام وفصل سياسيا وتقدم بطلب شموله وتتوفر لديه جميع متطلبات الفصل السياسي، ومن بينها عدم شموله بأحكام “هيئة المساءلة والعدالة”، ويرفض طلبه ويحرم من حقوقه لأنه ليس مواليا لتلك الأحزاب، في حين تلفق وثائق وشهادات مزوّرة للانتساب الوظيفي للموالين. فأي مواطنة وعدالة هذه؟
كيف يتحقق شعار “المواطنة” الذي نادى به الكاظمي وسط جمهور الشباب المحرومين، خلال لقائه مجموعة منهم في ميدان التحرير، حيث وعدهم بالوظائف في حين هناك عشرات الألوف لم يلتق بهم وبالتالي لم تطلهم هذه “المَكرُمة”.
ما يعد به الكاظمي مجرد حلول فردية تضيف أعباء جديدة إلى المشاكل الحالية التي يعاني منها الهيكل الوظيفي للدولة، والذي يقارب الخمسة ملايين منتسب، ومجرد استجابة انفعالية عابرة للترضية لا تقدم حلولا حقيقية لمشاكل البطالة خصوصا في صفوف الخريجين.
لتحقيق شعار المواطنة، الذي ينادي به رئيس الوزراء، لا بدّ من استئصال الفساد من جذوره، واقتياد حيتانه إلى القضاء وفضحهم في وسائل الإعلام، وإنهاء جذور ومظاهر الاستبداد السياسي والطائفي، وتوفير المناخ الآمن لحياة الناس بالقضاء على الميليشيات وتجريدها من السلاح، والكشف عن أسماء قتلة المتظاهرين ومن ورائهم، وفق الأدلة التي بين يديه ويدي سلفه، وهي إجراءات عملية لا تحتاج إلى بيانات ووعود، وهو يعرف أن الأمن الشخصي قبل الخبز أحيانا.
تحويل “المواطنة” من شعار إلى واقع، يتطلب لإنجاحه، إعلاما عراقيا مستقلا عن الأحزاب الدينية والمذهبية يعزز المواطنة العراقية، وإصدار قوانين وقرارات سريعة لإقصاء الفكر الطائفي من الحياة العامة، ومنع القنوات الفضائية المروجة له، وأن تتحول ثقافة المواطنة إلى برامج تربوية وتعليمية في المدارس والجامعات، تحل محل الفكر الطائفي الذي شوّه التاريخ العراقي والعربي والإسلامي.
كذلك يعرض الكاظمي شعار “العراق أولا” أمام شباب الانتفاضة، وهم الذين ترجموه في شعاراتهم الجريئة منذ اليوم الأول من أكتوبر 2019، وطالبوا بإخراج العراق من تبعيته لإيران والولايات المتحدة، ولعله سمع الآلاف من المرات شعار “إيران برّه برّه بغداد تبقى حرة”، ويفترض بالكاظمي أن يترجم هذا الشعار عمليا دون تردد.
أراد الكاظمي من ترديده لشعار “العراق أولا” إيصال رسالة لشباب الانتفاضة، يحذرهم فيها بعدم الاستماع إلى المخططات التي تستهدف العراق، وهو يعرف مصادرها من داخل الأحزاب النافذة، فهؤلاء الشباب ليسوا دمى أو عملاء للخارج، بل هم من بشر بالعراق الجديد، وشهداؤهم مشاعل على هذا الطريق.
الكاظمي بيده تطبيق شعاري المواطنة والعراق أولا على أرض الواقع، إن هو أراد ذلك، وأمامه فرصة ذهبية من خلال إدارته للتحضير للانتخابات المبكرة بإجراءات بعيدة عن التضخيم الإعلامي مستعينا بمستشاريه، تقطع الطريق أمام تحضيرات قادة الأحزاب وأساليبهم الماكرة المعروفة للحفاظ على مكاسبهم الحالية.
ماذا أبقت عصابات المافيا للعراق ليكون أولا، سوى تاريخه الناصع، أليس العراق بحاجة إلى تحريره من الاختطاف لكي يتم الحفاظ عليه؟ نعم العراق أولا، رسالة سياسية يوجهها الكاظمي إلى قادة الأحزاب من خلال شباب الثورة، وبإمكانه الاستقواء بهم في وجه الطغاة، وذلك بترجمة شعاراته عمليا، فالعراقيون سئموا الانتظار وصبرهم أمر من الصبر.