أكثر ما يشغل الكاظمي الآن ويقلقه هو أن يتم الرّد الإيراني داخل الأراضي العراقية في الوقت الذي يجهز فيه نفسه لزيارة واشنطن وما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات.
لا يمكن تجاهل اللحظة التي وقف خلالها حاكم العراق الجديد مصطفى الكاظمي أمام الدكتاتور الفارسي خامنئي، في قاعة مغلقة صغيرة تبدو وكأنها داخل ملجأ في إحدى ضواحي طهران، حافي القدمين، محني الرأس، شابكاً يديه على راحة صدره بخشوع.
اختزلت هذه اللحظة الكثير من المفردات السياسية، والاجتماعية، والأخلاقية وحتى الدينية، وسقطت من خلالها جميع تبريرات اللياقة الدبلوماسية لمكانة رجل الدين الحاكم الأول في إيران، والقائد العام لقواتها المسلحة، جامع الرئاستين العقائدية والسياسية، أما الرضا بحكمه من عدمه فأمر تقرره الشعوب الإيرانية المقموعة.
حاكم يعيش عزلة الغرور، وحلم الإمبراطورية الفارسية الجديدة، التي يحاول فرضها بسلاح أتباعه في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وسط عزلة دولية لم تشهدها إيران من قبل.
كلما حاول العراقيون نسيان الحرب المؤلمة (1980 – 1988) مع إيران، التي أصبحت حقيقة دوافعها واضحة بعد أربعين عاماً، ينكأ خامنئي خليفة مؤسس النظام الخميني جراحها، في إشعار يومي للعراقيين، شيعتهم خاصة، أن عليهم الاستسلام لولاية الإمبراطورية الجديدة بلا قرارات مستقلة وبإذعان مهين له، وتسليمه موارد بلدهم والبقاء أسرى رحمته ورحمة عصاباته جياعاً مشردين متخاصمين. وحين يظهر مسؤول عراقي جديد، عليه تحمل مسك جمر النار، إن هو أراد تخليص بلده من هذه التبعية المهينة.
لا نتوقع من الكاظمي أن يعبّر علناً عما واجهه خلال تلك المرافعة السريعة، والإهانة التي لحقت بالعراق، قبل أميركا، من قبل الدكتاتور خامنئي، ولا أن يتخذ أية إجراءات حادة تجاه الميليشيات التي لن تتوقف عن سلوكها التخريبي في العراق
زعماء إيران يتجاهلون أبسط تقاليد الدول وحتى الإمبراطوريات، التي تتعظ من دروس الهزائم في الحروب، وهزيمة النظام الإيراني أمام العراق ليست بحاجة إلى أدلة. رغم أن احتلال ملالي طهران لبغداد عام 2003 تم بالقوة العسكرية الأميركية وبجنودها، ولم يخسر فيها الإيرانيون جندياً واحداً من جيشهم أو حرسهم الثوري.
علام التباهي والغطرسة وغلق العيون والعقول إذا؟ وعلام الشعور بوهم استمرار هذا الاحتلال رغم أن النظام الإيراني الآن في أردأ أحواله؟
ما حصل في بروتوكول مقابلة خامنئي للكاظمي، يعيد مناخ زعامات كهنة العصور الوسطى. وكان الأمر طبيعياً لو حصل لزائر من معممي زعماء الشيعة العراقيين الموالين، حين يعبرون عن مظاهر الخضوع والإذلال أمام وكيل الإمام الغائب، فهذه طقوسهم الخاصة، لا علاقة لشعب العراق بها. لكن أن تحصل لمسؤول العراق الأول، مصطفى الكاظمي، المعروف بليبراليته، في أول زيارة خارجية له بعد تسلمه رئاسة الوزارة، وفي ظرف حساس، فتلك حالة لا توضع في مقاس الشكليات، بل ترسم علامات استفهام، قد لا تكون في صالح مسيرته السياسية، إن لم يصحح انطباعات العراقيين حولها بإجراءات حقيقية.
قد تختفي أهمية الشكل البروتوكولي للزيارة أمام ما يمكن تحقيقه من نتائج وإجابات جديّة، حول الهموم والأسئلة التي تشغل العراقيين، وليسوا زعماء الأحزاب الموالية للنظام الإيراني. وفي منطق علاقات الدول ومصالحها وخصوصاً المجاورة، حيث ابتلي العراق بمشاكل الجيرة مع إيران لعقود طويلة. هناك ملفات كان لا بد من التحضير لها قبيل الزيارة، وأخطرها ملف الميليشيات المهددة لأمن واستقرار البلاد، خصوصاً في هجماتها المتكررة على المراكز الدبلوماسية والمصالح الأميركية في العراق.
هل فعل الكاظمي ذلك أسوة بالتحضيرات التي أعلن عنها حول زيارته للرياض، أم اكتفى خلال المقابلة بالاستماع إلى تقريع “الإمام”، حول مقتل قاسم سليماني؟ “لقد قتلوا ضيفك في منزلك واعترفوا صراحةً بالجريمة وهذه ليست قضية هينة”، وتهديده بالثأر السريع من الولايات المتحدة.
ولحقه بعد أربع وعشرين ساعة شمخاني رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني بقوله “الانتقام الأقسى ينتظر قتلة قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس”، وسط سخرية المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، مورغان أورتاغوس، من تهديداته عبر تغريداتها المكثفة، خلال وجود الكاظمي بطهران، حيث وصفته “بأنه يسعى إلى صرف الانتباه عن دور نظامه في انتهاكات حقوق الإنسان في جميع أنحاء المنطقة، مثل قتل العديد من المتظاهرين السلميين والمدافعين عن حقوق الإنسان في العراق على يد ميليشياته”.
لا نعرف إن كان الكاظمي قد سأل خامنئي، خلال مقابلته، لماذا يجعل من العراق ساحة لنزاعه الشكلي المفتعل مع واشنطن، بما يترتب على ذلك من ضرر يلحق باستقرار العراق، ويمنع الشركات الاستثمارية من دخوله بسبب انعدام الأمن؟ أم إن طهران تريد العراق بلا تنمية لتستنزف موارده وأمواله.
وإذا كان الإمام، حقيقة، قائد مشروع تصدير “الثورة الإسلامية”، وإزالة إسرائيل، لماذا لا يرسل فرق ميليشياته هذه يقاتلون المحتل الإسرائيلي إلى جانب “إخوتهم” إخوان كتائب حماس، في قطاع غزة؟ أو ينضمون إلى رفاقهم في حزب الله اللبناني جنوبي لبنان، بدلاً من تحويل العراق إلى ثكنة عسكرية مشتعلة بشعارات المقاومة، بينما حقيقتها هي القتل ونهب الأموال؟
هناك اهتمام سياسي وإعلامي بزيارات الكاظمي الثلاثية (الرياض طهران واشنطن) رغم أنها تقليدية، وسبق لعادل عبدالمهدي أن قام بمثلها، ما عدا واشنطن، التي أصرت على عدم دعوته، لمعرفتها الخفية بملف تورطه بالمسؤولية عن قتل أكثر من سبعمئة شاب من انتفاضة أكتوبر، وسياساته في الإذعان المذل لطهران.
الاهتمام السياسي والإعلامي بالكاظمي، سببه الظرف الحساس الذي يمر به العراق، والمزاج العراقي الجديد المنبعث من دوافع وتمنيات مشروعة، بعد مسلسل الإحباطات طيلة سنوات عجاف ماضية، على أمل أن يكون عهده بداية جادة لإنهاء مرحلة الفوضى الأمنية والسياسية، وهيمنة الميليشيات الموالية لطهران على مرافق الحياة العراقية، وتحويلها إلى إقطاعيات للقتل والنهب المالي.
تمنيات شعب العراق، المقهور والمحتل من إيران، عززتها شعارات الكاظمي المكثفة ذات النبرة العراقية، وإعلانه المتكرر الالتزام بها بعد أن غابت عن مسامع الناس لسبعة عشر عاماً، تلقت خلالها نبرات الثأر والكراهية والاحتراب الطائفي، خاصة من رئيس الوزراء المالكي، “حرب جيش الحسين ضد جيش يزيد”، مقرونة بحملات القتل والاعتقال والاختطاف.
آخر شعارات الكاظمي، التي أطلقها أمام المحتشدين من أهالي “الطارمية”، إحدى ضواحي حزام بغداد التي يراد لها، بسبب تركيبة أهلها، أن تكون “جرف صخر” ثانية، وفق قوائم معدّة ضد شبابها، وإعلانه بأنه رئيس وزراء لكل العراقيين، رغم أن مخاطر تداعيات الشعارات الخالية من التنفيذ، ستكون أكثر ضرراً على العراقيين من خصومهم التقليديين في الإسلام السياسي الشيعي.
لا نتوقع من الكاظمي أن يعبّر علناً عما واجهه خلال تلك المرافعة السريعة، والإهانة التي لحقت بالعراق، قبل أميركا، من قبل الدكتاتور خامنئي، ولا أن يتخذ أية إجراءات حادة تجاه الميليشيات التي لن تتوقف عن سلوكها التخريبي في العراق، بعد تلقيها أوامر الولي الفقيه بتنفيذ قرار الثأر لقاسم سليماني. بل إن أكثر ما يشغل الكاظمي الآن ويقلقه، هو أن يتم الرّد الإيراني داخل الأراضي العراقية، في الوقت الذي يجهز فيه نفسه لزيارة واشنطن، وما يمكن أن يحصل بعدها من تداعيات.
بغض النظر عن أجواء تلك المقابلة المهينة في طهران، وهل كان الكاظمي حزيناً أم مغتبطاً بها، في كل يوم جديد يمرّ تصبح الظروف أكثر صعوبة، خاصة في الخيار بين أن يكون جريئاً شجاعاً في التغيير، عبر قرارات وسياسات وطنية سريعة، وبين المسار التقليدي لأسلافه رؤساء الوزارات، وبذلك سيكون حكم ثوار العراق عليه أقسى وأمّر لأنه خدعهم بالشعارات وهذا ما لا يتمنونه.