المحتجون العراقيون لا يطالبون بلاسخارت بالانحياز إلى محنة شعبهم في مواجهة الميليشيات، لكنهم يرفضون انحيازها إلى القتلة لأنها بذلك تتحول إلى خط دفاع للميليشيات في الوقت الذي تتم فيه محاصرتهم.
عنوان هذه السطور لم أضعه من عندي أو من إدارة الجريدة، وإنما هو وصف لهاشتاغ شباب الثورة العراقية انتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي أخيراً وكان وسم (#بلاسخارت عدوة الإنسانية) أحد أكثر الهاشتاغات تداولا في العراق خلال الأيام الماضية، في وصف ساخر ومؤلم واحتجاج شديد على موقف ممثلة الأمم المتحدة (جينين هينيس بلاسخارت) باجتماعها أخيراً بعبدالعزيز المحمداوي الملقب “أبوفدك” نائب رئيس الحشد عضو هيئة الشورى لحزب الله في العراق.
وكانت الولايات المتحدة قد وضعت المحمداوي على قائمة الإرهاب لدوره المسؤول عن الهجمات على المصالح والسفارة الأميركية ببغداد في ديسمبر الماضي، والتي شارك في استعراضها قادة الميليشيات، هادي العامري وفالح الفياض وقيس الخزعلي، وانتشرت في حينه صور لشعارات كُتبت على سور مبنى السفارة الأميركية بينها صورة لشعار “الخال مر من هنا” في إشارة إلى أنه أشرف على العملية.
يدور اعتقاد واسع بأن أبوفدك يدير أحد معتقلات كتائب حزب الله في جرف الصخر، كما يتهمه المحتجون العراقيون بالمسؤولية عن كثير من الهجمات التي استهدفت ساحات الاحتجاج في بغداد ومدن أخرى وتسببت بمقتل العشرات. ونشر ناشطون تغريدات تنتقد بلاسخارت، وتضمنت صورا تعبيرية للممثلة الأممية وإلى جانبها قاسم سليماني، متهمين إياها بمحاباة القوى والأطراف التي استهدفت المحتجين على مدى العام الماضي.
انحياز الهولندية بلاسخارت إلى القتلة من الميليشيات سيضعها في خانة المنبوذين المحليين والخارجيين وهم كثر ولن تنفعها الصداقات المأجورة العابرة
هذه ليست المرة الأولى التي تثير فيها رئيسة البعثة الأممية في العراق الجدل، إذ سبق وتسببت تغريدة لها في نوفمبر الماضي في غضب واسع في العراق بعد أن وجهت فيها انتقادات للمحتجين بحجة قطع الطرقات وتعطيل البنية التحتية في البلاد..
بلاسخارت كانت قبل تعيينها بوظيفتها الأممية وزيرة الدفاع الهولندية، ثم أُجبرت على الاستقالة بعد اتهامها من قبل وزارة دفاع بلادها بإصدارها أوامر القصف الجوي وقتل الأطفال والمدنيين في مدينة الموصل العراقية عام 2015.
وجود ممثلية للأمم المتحدة في العراق كان متزامناً مع الاحتلال الأميركي الذي استمر لثماني سنوات، وكان لممثل الأمين العام، سيرجيو فييرا دي ميلو، الذي اغتيل بتفجير انتحاري في أغسطس من عام 2003 دور في الحوار الأممي مع المرجع الشيعي السيستاني، الذي استعجل قيام دستور للبلاد حسب تصريحات غسان سلامة الذي شارك بذلك الحوار، لكن هذا الدور تحوّل بعد إخراج العراق من الفصل السادس إلى استشاري في مجال حماية السلم الأهلي دون الانحياز لجهة سياسية دون أخرى.
بلاسخارت ووفق تقارير ميدانية كثيرة، انحازت إلى أحزاب الإسلام السياسي المسؤولة عن القتل والفساد والاستبداد، والمئات من المعلقين العراقيين شككوا في نزاهتها واتهامها بـ”استلام رشاوى من الحكومة والأحزاب مقابل الصمت عن الانتهاكات ضد المتظاهرين في العراق”، وهي اليوم تبرر لقاءها بأبي فدك بأنه من أجل الحوار، وهي حجة قد تقنع الثوار العراقيين.
يجدر بممثلة الأمين العام للأمم المتحدة تحاشي الصراعات الداخلية العراقية والخارجية في ظرف حساس، والمحتجون العراقيون الثوار لا يطالبون بلاسخارت بالانحياز إلى محنة شعبهم في مواجهة دموية الميليشيات، لكنهم يرفضون انحيازها إلى القتلة، لأنها بذلك تتحول إلى خط دفاع لهم في الوقت الذي تتم فيه محاصرتهم شعبياً ودولياً.
وهناك ضغوط على رئيس الوزراء الكاظمي لتشديد حملته ضد الوجود الميليشياوي الذي يهدد الأمن العراقي. فهي في تبريرها إدارة الحوار مع جميع الأطراف تخرج المتهمين بقتل الثوار من خانة الاتهامات التي تتصاعد إلى خانة المحاورين، فمتى أصبحت الأمم المتحدة منقذة للميليشيات من مأزقها وحامية لها، وهي بذلك تنضم إلى دعوات فصائل سياسية داعمة للميليشيات.
الكاظمي في مأزق بعد مرحلة الضغط الأميركية القصوى بالتهديد بغلق سفارتها ببغداد، لذلك أوفد وزير خارجيته فؤاد حسين إلى طهران لكي تضغط على وكلائها للتوقف عن الهجمات الصاروخية، إلا أن السلطات الإيرانية كعادتها في المناورة تنصلت من المسؤولية وفسر موقفها بأنه إطلاق يد مبطن لتلك الفصائل لتضرب وتهرب من غير أن تمنح السلطات العراقية فرصة لإدانتها بالأدلة والقرائن.
ودعا مسؤولوا النظام الإيراني المبعوث الدبلوماسي إلى قيام حكومته بمساءلة العراقيين، فهي المسؤولة عنهم دون الرجوع إلى طهران. وهي بذلك تفسر سلسلة البيانات التي أوعزت إلى وكلائها في قادة الأحزاب والميليشيات في العراق لإصدارها في التعبير عن الموقف الإيراني المهادن حالياً لأنها تعرف خطورة تداعيات غلق السفارة الأميركية ببغداد.
الولايات المتحدة كانت قد وضعت المحمداوي على قائمة الإرهاب لدوره المسؤول عن الهجمات على المصالح والسفارة الأميركية ببغداد في ديسمبر الماضي، والتي شارك في استعراضها قادة الميليشيات
كجزء من أساليب المناورة الجديدة، نقلت الميليشيات هجماتها الصاروخية مؤقتاً إلى أربيل في رسائل واضحة لواشنطن وللكاظمي بأن “يد الميليشيات قادرة أن تطال الوجود الأميركي في العراق”، لكنها ومن دون أن تعلم فتحت أبواباً جديدة لتصعيد الحملة ضدها من قبل القيادة الكردية التي لم تتردد في تأكيد احتضانها للقوات الأميركية في منطقة كردستان وفضح الدور الإرهابي للميليشيات.
ما رشح من أنباء يفيد بأن الكاظمي يريد تنفيذ خطة تأمين البعثات وإخلاء المنطقة الخضراء، بل بغداد بالكامل، عبر عملية مركبة من التفاهمات المباشرة وعبر الوسطاء السياسيين مع بعض قادة الفصائل وعن طريق عمليات أمنية محدودة لكنها نوعية، لكن ردود فعل فصائل الميليشيات رفضت إخلاء المنطقة الخضراء بعد أن توطنت فيها واستولت، حسب تقارير مؤكدة، على الكثير من المباني والمنشآت الحكومية والعقارات التي كانت مملوكة للدولة العراقية السابقة.
الخالة (أم فدك) أخطأت في تقديراتها لدور الشعوب في تقرير مصيرها وهي المنحدرة من بلاد المنخفض الهولندي التي عانت كثيراً من الاحتلالات وهيمنة الدول الكبرى على مقدرات شعبها، لكنها في النهاية تحررت ومسكت مصيرها بيدها كبلد أوروبي متطور ينعم بالحياة التي أيضاً يستحقها العراقيون بجدارة. وانحياز الهولندية بلاسخارت إلى القتلة من الميليشيات سيضعها في خانة المنبوذين المحليين والخارجيين وهم كثر ولن تنفعها الصداقات المأجورة العابرة.