لا يوجد شعب يملك ما يملكه شعب العراق وتعرّض لما تعرّض له من خداع ونهب وأصبح أسير مجموعات من القتلة رغم وجود حكومة تتحدث شعاراتها عن سيادة القانون ومحاربة الخارجين عليه.
ما يعيشه العراقيون اليوم من إحباط عميق، ويأس من النظام السياسي القائم، ليس وليد لحظة هيمنة سلاح الميليشيات، وعبثها الدموي، وتماديها في التطاول على من يؤمنون بالوطنية العراقية، والاستقلال، والسيادة على الثروة، والقرارات المصيرية العليا، أو المعاقبة بالقتل لمن يكشفون التلاعب بأمن العراقيين وكرامتهم. ولم تعد مسألة هيمنة الميليشيات الموالية لطهران، على مختلف المرافق العراقية، مسألة اتهام مُغرض، بعد أن أصبح المسؤولون الإيرانيون يفاخرون بذلك علناً.
الحالة المريرة التي يمر بها أهل العراق هي مخططات إيرانية أميركية طويلة استهدفت العراق، منذ اللحظات الأولى التي وقع فيها صدام حسين في شرك احتلال الكويت، في الثاني من أغسطس عام 1990، حيث توافقت مصالح كل من واشنطن وطهران على إلحاق الأذى بشعب العراق، وتجريده من جميع مقومات بنائه التنموي.
سبق أن توفرت اللحظة المناسبة لليمين الأميركي، في ظل إدارة بوش الأب، لسحق الجيش العراقي بأسلوب همجي وقح، خلال عملية انسحابه من الكويت داخل الأراضي العراقية، عام 1991، وكانت تلك الفرصة الذهبية لنظام الخميني وخليفته خامنئي، لتنفيذ سياسة الغدر بالعراق، وحرقه وتمزيق وحدته الاجتماعية، ثأراً من الهزيمة العسكرية وتجرّع السم بقبول وقف إطلاق النار مع العراق. بل إن الوثائق أشارت إلى تحرك قطعات الحرس الثوري لاجتياح جنوب العراق لكنها تراجعت لعدم موافقة الرئيس الأميركي بوش على ذلك.
منذ عام 1991، بدأ العد التنازلي لآمال العراقيين باستعادة حياتهم الطبيعية كبشر لديهم نخب وعقول ولهم وطن، وفي باطن أرضهم وعلى سطحها ثروات وكنوز، لكن القوى الطامعة بالبلد استخدمت الحصار الجائر، كأداة تخريب وتدمير، ومع ذلك سجّل العراقيون، نساء ورجالاً، أروع الأمثلة على الصمود والتعالي على الحاجة والفقر، وأعادوا بناء ما خربّته الآلة الأميركية، في قطاعي الاتصالات والكهرباء، بأوقات قياسية مذهلة.
وقد وجه قبل أيام مهندس وعالم من علماء العراق، الذين أعادوا الطاقة الكهربائية للعراق في تلك الفترة، دعوة إلى رئيس الوزراء الحالي، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تطوع من خلالها لإعادة بناء الطاقة الكهربائية للعراق دون مقابل.
التحالف الأميركي الإيراني، المباشر وغير المباشر، أدى إلى احتلال البلد، وسحق دولته العريقة عام 2003. ودائماً ما يناكف الإيرانيون الأميركيين بالقول لهم: لولانا لما تمكّنتم من احتلال العراق. ولعل تنفيذ الأمريكان لمشروع تسليم الحكم لأحزاب وجماعات الإسلام السياسي الموالية لإيران لم يحصل بالصدفة، بل جاء تعبيراً عن رغبات ودوافع جدّية لتعطيل نموه وتفكيك كيانه، وتعزيز مكانة الميليشيات المسلحة التي تطلب اليوم من الأميركان المغادرة لأن مهمتهم انتهت حسب نظرهم.
ليس من المبالغة القول بأنه لا يوجد شعب على الأرض يملك ما يملكه شعب العراق، وتعرّض لما تعرّض له من خداع في العقائد، والشعارات، ونهب الثروات والمال العام، وأصبح اليوم أسير مجموعات من القتلة، رغم وجود حكومة ورئيس وزراء، تتحدث شعاراتهما عن سيادة القانون، ومحاربة الخارجين عليه.
بعد حصيلة مريرة، على مدى سبعة عشر عاماً من الحرمان، والفقر، والمرض وأخيراً تهديد الأمن الاجتماعي والفردي من قبل عصابات مسلحة، يأتي رئيس الوزراء الجديد، مصطفى الكاظمي، واعداً العراقيين بمشروع إصلاحي لإعادة “هيبة الدولة”، وانتزاعها من مخالب الفاسدين. إلا أن الأيام القليلة الماضية شهدت معوقات صادمة هي الأولى على هذا الطريق، التي تثير تساؤلات مخضبة بدماء شباب الانتفاضة، ونخب مفكّرة كهاشم الهاشمي.
ما يحصل من تناقضات، بين الشعارات العريضة والوعود الكبيرة، وبين الغموض الذي يحيط بحقيقة انفتاح نوافذ الأمل، على يد رجل من خارج دائرة الإسلام السياسي، يقولون إنه مدعوم من واشنطن، التي دعمّت قبله جميع رؤساء العراق، ومن بينهم من كان سبباً رئيساً في ما حصل من نهب للأموال، وتسليم العراق لإرهابيي “داعش” وميليشيات إيران.
ليس مهما وصف الكاظمي، من قبل الميليشيات، بأنه صديق واشنطن، فهذا يحصل لأغراض تكتيكية، تمكنها من السيطرة على جناحي السياسة والقتل والتهديد به، بعد التراجع المدبّر للزعامات الشيعية التقليدية. المهم في الأمر مدى قدرة العراقيين على استمرار المراهنة على الكاظمي، بعد أن وصلت انتفاضتهم إلى مرحلة يستطيعون فيها التأثير في الأحداث، وتحديد معالم طريق المسؤولية الوطنية، رغم قسوة حملات التصفية والتشويه التي تهب رياحها من الشرق.
هناك إشارات مخيّبة لآمال العراقيين، تعطي رسائل غامضة عن السلوك الواقعي للكاظمي، المناقض لشعاراته الثورية، وتجعل من الذين يدعون إلى إعطائه الفرصة يفكرون في فرملة تلك المواقف، ويتساءلون عن إجراءاته التي تثير علامات استفهام جدّية، مثل إعادته للواجهة بعض المسؤولين الذين تدور حولهم شبهات فساد، وأصبحت سمعتهم في القاع كنماذج نبذها الناس.
وتكليف بعض المتورطين بملفات أمنية ضد المواطنين، بمسؤوليات لجان تحقيق ضد الميليشيات، للتحقيق بجرائم قتل، من ضمنها جريمة قتل هشام الهاشمي، أو قصة جلب أكثر من ثمانمئة إيراني، بمركباتهم إيرانية الصنع، لإحلالهم بعد العراقيين في تشغيل شركة نقل بين المطار الدولي ومدينة بغداد، ويقال إنهم من منتسبي الحرس الثوري، في وقت يعاني فيه شباب العراق من البطالة.
وتربط هذه الوقائع مع واقعة ليلة القبض على عصابة “الدورة” حيث وجد الكاظمي نفسه مطوّقاً، بعد اندفاع مجموعة من الميليشيات نحو المنطقة الخضراء، وتطويقها مركز قيادة مكافحة الإرهاب، بتسهيلات من آمر موقع المنطقة، الذي خالف أوامر القائد العام للقوات المسلحة، الذي أمر بعزله، لكنه تراجع بعد ساعات من هذا الأمر، حسب المعلومات التي أعلنها أحد النواب السابقين.
هذه القصص، أو بعضها، قد تكون مدفوعة بحملة إشاعات من قبل الجيوش الإلكترونية للأحزاب الموالية لإيران، توحي بأن الكاظمي يواجه صعوبات جدّية في مواجهة الميليشيات، وهي الموضوع الأهم في قائمة مسؤولياته، وقد انتبهت الزعامات الشيعية إلى مخاطر تلك التوجهات، فأبلغته أمام الملأ بالتخلي عن هذا الميدان والانصراف إلى المشكلات الاقتصادية، وملف الانتخابات المبكرة، التي يبدو إنهم رتبوا وضعها، لكي لا تخرجهم نتائجها من المشهد.
شعب العراق يا كاظمي، لم تعد لديه “حوصلة” للصبر، كما يقول المثل العراقي، والإحباط قد أخذ مأخذه منهم، فإن كنت غير قادر على السباحة، وارتجفت قدماك منذ اللحظات الأولى لوضعها في الماء، عليك الإسراع بإبلاغ العراقيين بذلك، وبصراحة، لكي يتدبروا أمرهم، ولا يندفعوا خلف سراب الصحراء.
فمنذ انتفاضة أكتوبر أصبح طريق العراقيين واضحاً؛ الميليشيات لن تنتصر، لا هي ولا زعاماتها السياسية، فجميعهم ومن خلفهم طهران، في أسوأ حال، وتلويحهم بالسلاح، لتخويف أصحاب الكلمة الصادقة، من أبناء الشيعة خاصة، لن يثنيهم عن طريق الحق. شعب العراق سيجد حلولاً تفاجئ الجميع.