ماذا يستطيع العلم أن يقدم للعراق في ظرفه المأساوي الحالي؟ بلد منهار اقتصاديا وأمنيا وعجز في الميزانيات الحكومية إلى درجة عدم القدرة على دفع رواتب أكثر من أربعة ملايين موظف حكومي.
لم يتمكن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، لحد اللحظة، من الخروج ولو جزئيا من أخطر التحديات التي تضغط عليه، لدرجة قد تقوده حسب وعده إلى إعلان الفشل في مواجهة التحدّي الأمني، وذلك رغم سيرته الاستخبارية التي سبقت وصوله لرئاسة الحكومة قبل ستة أشهر. حيث لم يتبق للسيطرة السياسية والأمنية الكاملة للميليشيات الإيرانية على الحكم في العراق سوى الإعلان الرسمي، ويتم التحضير لهذا السيناريو بتصميم طهران، ويتولى القيادة التنفيذية المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي.
الكاظمي يعرف بالتفصيل الدقيق ماذا تريد طهران، ولم يعترض على نفوذها واحتلالها للعراق، لكنه يحاول كما حاول قبله حيدر العبادي إقناعها بأن الانفتاح عربيا ودوليا لن يضر بمصالحها العليا بل ينفعه. وطهران لا تعترض على ذلك حين تقع الخطوات الدبلوماسية ضمن الأوراق السياسية لفك الطوق الأميركي عنها، خاصة أنها تتوقع رحيل المتشدد تجاهها الرئيس ترامب.
اشتد فصل المنازلة بين كاتيوشا الميليشيات وواشنطن، بعد قرارها احتمال غلق سفارتها ببغداد، بكل ما يترتب على ذلك من تداعيات أمنية خطيرة، وتصاعدت الهجمات على شباب ثورة أكتوبر، وتوسع عمليات خطف وقتل المدنيين من العرب السنة، في إحياء جديد لموجة الحرب الهمجية ضدهم، التي حصلت عامي 2006 و2007، والتهديدات المتكررة من قبل ميليشيا حزب الله العراقي باقتحام المنطقة الخضراء، مما حشر الكاظمي في زاوية لا تنفع فيها كلمات الرثاء والمواساة للشهداء، ولا وعود لجان التحقيق الكثيرة. ومثلما يقول المثل الشعبي “هذا الميدان يا حميدان”.
اهتدى الكاظمي لفتح ثغرة في جدار الحصار الداخلي بالذهاب للعالم الأوروبي لمعاونته، بعد كسبه لواشنطن صاحبة الكلمة الأولى المتشاركة مع طهران والتي وضعت بين يديه خارطة طريق للخلاص، قرأها وتلمّس بين سطورها مخاطر المجازفة، إما أن يكون قائد عراق مستقل عن إيران بعد إنهائه لتسلط الميليشيات، أو البقاء تحت ظلال الوعود الكبيرة بلا تنفيذ. فاختار الأيسر والأضمن، وهو ما خيّب آمال العراقيين.
ماذا يمكن أن تقدم باريس وبرلين ولندن لنظام لا يصدر عنه موقف أو تتخذ من قبله خطوة إلا بعد فرمان ولي الفقيه؟ رغم أن الأوروبيين غير متحمسين ولا يتفاعلون مع فكرة تخليص العراق من النفوذ الإيراني، مثلما هي رغبة واشنطن. وهي المسافة التي يحاول الكاظمي الاستفادة منها في الذهاب للأكثر نفعا لصالح إيران المحاصرة. لكنّ الأوروبيين، ذوي المصالح، لا يطمئنون إلى الوضع الأمني المتردّي في العراق الذي يشكل عقبة أمام المستثمرين الأجانب، إلا بعد خضوعهم لصفقات الميليشيات المريبة، ومن يمتنع عنها مصيره الاختطاف أو الموت، وأمثلة ذلك كثيرة في البصرة وما حولها من مواقع عمل الشركات الأجنبية.
باريس تميزت بعلاقات استراتيجية مع عراق ما قبل 2003. ومن المفيد تذكير الكاظمي بإعادة بناء موقع مفاعل “تموز” في بغداد، الذي دمّرته الطائرات الإسرائيلية عام 1982، بتعاون استخباري مع طهران. ما حصل خلال زيارة الكاظمي لباريس توقيع “نوايا” وليست صفقات عقود، على سبيل المثال مشروع “مترو بغداد” الذي وضعت تصاميمه الأولية عام 1981 زمن حكومة نظام صدام حسين، لكن الحصار أوقف تنفيذه، لتعاد فكرته حاليا حيث يتطلب سيولة مالية كبيرة في ظل الفساد المستشري.
لبرلين قصة أخرى لا تقل عن غيرها من قصص النهب المُنظّم لعقود الاستثمار الخارجي، فشركة “سيمينس” العملاقة في ميدان الطاقة الكهربائية كان بالإمكان، لو توفر الرجال المخلصون للعراق، أن تنفذ مشروعا يحل مشكلة نقص الطاقة الكهربائية التي يعاني منها العراق، بزمن قياسي، مثلما فعلت مع مصر التي لا تمتلك موارد العراق، حيث أنجزت أضخم مشروع للكهرباء هناك بمدة لم تتجاوز ثمانية عشر شهرا عام 2018، وبنت “طواحين هواء” عملاقة للاستثمار اليسير للطاقة، بكلف إجمالية مقدارها 12 مليار يورو.
في حين نُهب أكثر من 64 مليار في العراق خلال السنوات العشر الماضية، والبلد يعاني من انعدام خدمة الكهرباء لمواطنيه رغم تصريحات وزير الطاقة الأسبق جواد الشهرستاني، صاحب فضيحة عقود التراخيص، بأن العراق كان جاهزا لبيع الكهرباء منذ عام 2012.
لندن لها خصوصية تاريخية في صناعة العهد الجديد، إلى جانب الولايات المتحدة، بل سبقتها في احتضان المعارضة العراقية لنظام صدام، وأربعة رؤساء حكومات جاؤوا بعده، هم إياد علاوي وإبراهيم الجعفري وحيدر العبادي وحاليا مصطفى الكاظمي، كانوا لاجئين فيها.
ولندن معروفة بهندستها لصناعة الحكام في العراق ومازالت كذلك، ويعود لها الفضل في تخريجهم من أروقتها الخاصة، بل هي الأكثر دهاء في ترشيح الموالين لإيران من دوائر الحوزات الشيعية الناشطة في بريطانيا، لمسرح الحكم في العراق. في ظل تسريبات تقول بتهيئة الأجواء للتطبيع مع إسرائيل. لهذا فعلاقة لندن ببغداد هي الأكثر عمقا في إنتاج تحول جدّي في النظام السياسي القائم وهذا ما يقلق طهران.
ماذا يستطيع العالم أن يقدم للعراق في ظرفه المأساوي الحالي؟ بلد منهار اقتصاديا وأمنيا؛ عجز متوال في الميزانيات الحكومية لدرجة عدم القدرة على دفع رواتب أكثر من أربعة ملايين موظف حكومي، يعيشون على هذا المصدر الوحيد بعد انغلاق مصادر العيش في القطاع الخاص، الذي أصبح في خبر كان. الأحزاب وميليشياتها لم تترك مفصلا اقتصاديا إلا ونهبته، حتى البنية التحتية للصناعة والزراعة التي كان بالإمكان الانطلاق منها سُرقت وهربت أصولها إلى إيران. فأي تنمية يمكن أن تحصل على بساط الهشيم هذا؟
أميركا ضخّت المليارات بعد عام 2003 على أمل استرجاعها في استثمارات شركاتها الكبرى، لكنها نُهبت، لدرجة دفعت الرئيس ترامب للإفصاح بنبرات عالية عن تفاصيلها، وشتم حكام العراق ووصفهم باللصوص.
لا أميركا ولا دول أوروبا قادرة على إنقاذ العراق. أما روسيا والصين فكلاهما يلعب في العراق لعبة المناكفة في صراع النفوذ مع واشنطن ليس إلا. فهذان البلدان لا يقدمان مالا ولا استثمارات حقيقية للإنقاذ. رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، المتورط بمسؤوليته عن قتل الثوار الشباب بعد انتفاضتهم في أكتوبر العام الماضي، اكتفى بالسير على جنبات سور الصين العظيم مستذكرا ماضيه الشيوعي الماوي، وعقد صفقة ما سمي بطريق الحرير، حيث ادعى بأنه سيتم خلال سنتين بناء 3 ملايين وحدة سكنية، ليصبح لكل مواطن عراقي سكنه الخاص، وأن العراق سيسبق أميركا في الاقتصاد. وهي مهزلة من مهازل السياسيين في العراق.
الطريق الحقيقي الذي يعيد للعراق مكانته وعزّته لدى مواطنيه وسمعته الدولية يتحقق فقط حين يحكمه نظام سياسي جديد، قائم على المواطنة واحترام حقوق الإنسان والعدالة والسلم الأهلي، ويحاكم بجرأة جميع من اقترفوا بحق أبنائه الظلم والاستبداد والقتل والفساد.
مَن سيعيد للعراق مكانته بين الأمم هم أبناؤه المخلصون وشباب ثورته الجديدة. فالعالم لا ينقذ العراق قبل أن ينقذه أهله، وهذا ما ينتظره الجميع.