وعود الكاظمي واستمراره في تشكيل اللجان لا قيمة لهما إن لم يرتبطا بإجراءات واضحة لتطبيق القصاص العادل، فتشكيل اللجان لا يداوي الجروح بل تداويها القرارات الشجاعة المرفقة بالأدلة والبراهين.
لم يكن البيان الذي ألقته العراقية أم الشهيد مهند ليلة الخامس والعشرين من هذا الشهر بيانا رقم واحد، تلاه ضابط أو من يمثله من مقر إذاعة بغداد، حيث تحيطها الدبابات لإعلان الانقلاب العسكري على النظام. ولم يكن إعلانا بالاحتلال العسكري للعراق ممهورا بتوقيع الرئيس الأميركي بوش، بعد أن لّف أحد جنوده العلم الأميركي على رأس تمثال رئيس النظام السابق صدام حسين، في إحدى ساحات بغداد، إيذانا ببدء عهد اللصوص الذين اختطفوا العراق وسلّموه لطهران، وليس بداية عهد الحرية والديمقراطية كما يزعمون.
كان البيان الذي تلته أم الشهيد مهند وتناقلته جميع وسائل التواصل الاجتماعي، ميثاقا للثوار بصوت أمّ لشهيد اغتالته ميليشيات تابعة لمقتدى الصدر من بين كوكبة من الشهداء يزيد عددهم على 600 شاب وشابة تم اغتيالهم، وتحولت أمّ الشهيد إلى متّهمة مُطاردة من أجهزة مقتدى الصدر لجرأتها في قول الحقيقة.
عطّل الثوار تظاهراتهم لعدة أيام بعد الأول من أكتوبر لتزامنها مع طقوس ذكرى استشهاد الحسين، ثم تواصلت بوتيرة أعلى في الخامس والعشرين منه بعزيمة الواثقين من أنفسهم ومن مبادئهم الثورية، ضد الظلم والفساد والقتل ومازالت شعلتها مستمرة.
مع صوت أم مهند توقفت أصوات المآذن والكنائس، وأصوات المؤمنين، حيث شق جدار الصمت لدقائق معدودة صوت أم مهند هادئا، والذي أجزت لنفسي أن أسميه البيان الأول للثورة العراقية، التي تفتح عهدا مشرقا جديدا للعراق، وتطوي مهما طالت الأيام عهد الفساد والتبعية. كان صوتها، الواثق من حتمية انتصار الثورة، يحمل أحزان العراقيين ووقار العراق، ويستحضر تاريخه المشرق، ويوجز قصة مجد هذا البلد منذ عهود آشور وبابل والقادسية.
ذلك الوقار، الذي أطلّت من خلاله أم الشهيد وهي ترتدي ثوب السواد، يحمل دلالة أصيلة لقيمة التوّشح بالسواد احتراما لقيم الاستشهاد من أجل الوطن، فاضحة بذلك المنافقين الذين يتبرّجون بـ”الكرفات” (ربطة عنق) السوداء على شاشات الفضائيات خلال أيام عاشوراء، أو ارتداء “الدشداشة” الرجالية السوداء، في مسيرات اللطم، كواحدة من خُدع نظام ولي الفقيه لإيهام العراقيين وصرف انتباههم عن حقائق ما يجري في بلدهم.
البيان الأول لأم الشهيد مهند كان برنامجا للثورة العملاقة الجديدة، حمل تفصيلات ووصايا لجميع الأمهات في العراق، لأن لا يقفن بوجه أبنائهن وعدم منعهم من الالتحاق بمسيرة التصدّي لحكم القتلة، والخروج إلى شوارع بغداد والناصرية والبصرة وكربلاء، بل دعت إلى تشجيعهم واحتضانهم وإسناد ظهورهم رغم التضحيات الممهورة بالدماء الزكية.
نبّهت أيقونة أمهات الشهداء من مخاطر الاندساس وفتح الثغرات في صفوف الثوار والبقاء على طابعها السلمي، لأن ذلك من مخططات الحكام وميليشياتهم.
كان مشهد أم مهند وهي تلقي بيان الثورة، أشبه بمهرجان مهيب مقام على ساحة حقل كبير في يوم مُشرق على جنبات دجلة والفرات، تحتضن فيه الثوار، وبينهم الشهداء، وتأخذ إمضاءهم الموّحد بالعهد على الاستمرار في مسيرة الفداء وميثاقها الثوري. وكم تمنّيت لو انتصبت شاشات العرض التلفزيوني في جميع ساحات بغداد ومدن العراق تنقل وقائع هذا البيان. لكن اليوم الذي سيوّثق هذه الملاحم ليس بالبعيد، حينها ستختفي عن حيطان المباني صور رموز الدجل والكذب، وتحل محلها صورة كوكبة شهداء الثورة الجديدة.
قد لا يكون مناخ التجلّي لهذا المشهد والطقس الثوري مناسباً لعرض مشهد آخر يقدم بيان رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، يحاول من خلاله تلّمس بعض الأعذار لمسلسل القتل، ويعد في بيانه ليلة الخامس والعشرين من أكتوبر، بكشف المتورّطين، خاصة أن وثائق الإدانة بين يديه، وأبرزها المتعلق بقتلة الشهيد هشام الهاشمي، حيث تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي أخبار إلقاء القبض على المنفذين لهذه الجريمة البشعة ضد واحد من مقربيه، الذي لم تكن جريمته سوى كشفه لبعض ما يدور في مشروع هيمنة الميليشيات على المؤسسات السياسية والأمنية العراقية، لأن كشفها سيُحرج المسؤولين عن هذه الجرائم، وهم قادة أحزاب وميليشيات تابعة لهم، ومن خلفهم نظام ولي الفقيه في طهران.
وعود الكاظمي وأمانيه واستمراره في تشكيل اللجان لا مكان لها في نفوس آباء وأمهات الشهداء والمغيّبين، إن لم ترتبط بإجراءات واضحة لتطبيق القصاص العادل، فتشكيل اللجان لا يداوي الجروح، بل تداويها القرارات الشجاعة المرفقة بالأدلة والبراهين، وهذا ما يتردّد الكاظمي في تنفيذه.
ستبقى أم مهند وجميع أمهات الشهداء العراقيين، منذ عام 2003 وإلى حد اليوم، شوكة في عيون القتلة والفاسدين. الثورة لا تعرف أنصاف الحلول، وعالمها لا يدركه ولا يقترب منه الذين يعيشون في عالم البذخ والرخاء المؤقت. حساب شعب العراق لهؤلاء قادم.