ميشال عون لا يعي معنى إغراق المبادرة الفرنسية في متاهات السياسات اللبنانية في وقت ليس مسموحا فيه الرهان على الوقت. لم يكن مسموحا سوى الرهان على هذه المبادرة التي سعت أصلا إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ليس صحيحا أنّه لم يكن أمام لبنان غير خيار جهنّم. كان هناك خيار التزام الدستور بدل الاحتكام إلى لغة السلاح التي يعتمدها “حزب الله” بديلا عن القوانين المعمول بها والدستور نفسه. هناك أيضا خيار الاستراتيجية الدفاعية في ظلّ حكومة جديدة وفق مواصفات معيّنة وضعتها فرنسا.
أيّ خروج عن هذه المواصفات مجازفة. ليس قرار مصطفى أديب بالاعتذار عن عدم تشكيل حكومة جديدة بمواصفات عصرية سوى خيار في غاية السوء بعدما اعتمد رئيس الجمهورية ميشال عون فرض خيار “رايحين على جهنّم”. يظلّ “خيار جهنّم” نتيجة طبيعية لوصول لبنان إلى ما وصل إليه. وصل لبنان إلى ما وصل إليه في ظلّ هذا العهد الجهنّمي الذي ارتضى سيّده أن يكون “عهد حزب الله” بسبب رفض رئيس الجمهورية المنتخب في 31 تشرين الأوّل – أكتوبر 2016 لعب دور بيضة القبان بين الأفرقاء اللبنانيين.
انحاز ميشال عون إلى سلاح “حزب الله”. هذا ما التقطه العالم وهذا ما التقطته المملكة العربية السعودية التي قالت كلاما واضحا عن “حزب الله” بلسان العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز. وهذا ما لم تلتقطه فرنسا التي تحاول إنقاذ مبادرتها عبر طرح قدّمه رئيس الوزراء السابق سعد الحريري يتعلّق بالقبول بأن يكون وزير المال في حكومة مصطفى أديب “شيعيا” وإنْ ضمن شروط معيّنة.
مثل هذا الطرح مرفوض من الشارع السنّي ومن معظم اللبنانيين، لكنّ فرنسا تبدو مصمّمة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مبادرة رئيسها إيمانويل ماكرون، الذي بات نجاحه في لبنان بمثابة تحدّ ذي طابع شخصي. ما الذي ستفعله الآن في ضوء فشل مبادرتها اللبنانية؟ هل لديها خيار آخر غير ترك لبنان لمصيره بعدما تبيّن أن البلد تحت الهيمنة الكاملة لـ”حزب الله”؟
كان خيار “حزب الله” المتعلّق بالإصرار على أن يكون ميشال عون رئيسا للجمهورية أكثر من موفّق. موفق بالنسبة إليه وإلى إيران طبعا وليس بالنسبة إلى لبنان واللبنانيين. كان يستأهل الخيار صبر “حزب الله” مدّة سنتين ونصف سنة أغلق خلالها مجلس النوّاب كي يفرض ميشال عون رئيسا للجمهورية. لم يخيّب الرجل آمال الحزب في أي لحظة منذ دخوله قصر بعبدا… حتّى عندما يتحدّث الآن عن مداورة في الوزارات السيادية معترضا بطريقة غير مباشرة على طرح “الثنائي الشيعي”. إنّه اعتراض شكلي لا قيمة له.
صار البلد في الحضيض إلى درجة لم يعد ميشال عون يجد ما يشدّ به العصب المسيحي، أو هكذا يعتقد، سوى الكلام السمج عن اللاجئين السوريين في لبنان. يتناسى أن حليفه “حزب الله” ساهم في تهجير السوريين من سوريا حيث يشنّ نظام أقلّوي، على رأسه بشّار الأسد، حربا على شعبه!
تبيّن أن رئيس الدولة في لبنان يعيش في عالم خاص به لا علاقة له بالواقع. ما ينطبق عليه ينطبق أيضا على معظم السياسيين اللبنانيين الذين يرفضون أخذ العلم بما هو على المحكّ في لبنان الذي يهدده “خطر الزوال” على حد تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان.
لنضع جانبا الكلام عن جهنّم وطمأنة ميشال عون اللبنانيين إلى مصيرهم. في كلام رئيس الجمهورية ما هو أسوأ بكثير من ذلك. هناك سوء فهم لطبيعة المبادرة الفرنسية التي حملها الرئيس ماكرون في زيارتيه لبيروت. هناك نسف للمبادرة. وهذا ما حصل بالفعل.
يظهر أن الدور الوحيد الذي يستطيع ميشال عون لعبه هو دور توفير الغطاء المسيحي لسلاح “حزب الله”، وهو سلاح مذهبي قبل أي شيء. يسعى هذا السلاح في الوقت الحاضر إلى فرض أن يكون وزير المال “شيعيا” في أي حكومة لبنانية. وهذا مخالف للدستور بشكل صارخ. بكلام أوضح يسعى “الثنائي الشيعي”، حيث الكلمة الأخيرة لـ”حزب الله” أي لإيران، إلى تأكيد أن السلاح المذهبي أقوى من الدستور اللبناني، بل هو الدستور.
المخيف أن لبنان في ذكرى مرور قرن على قيامه يعيش في ظلّ رئيس للجمهورية لا يدري معنى هيمنة “حزب الله”، أي إيران، على القرار اللبناني وعلى البلد كلّه ولا يدرك معنى انهيار النظام المصرفي ولا معنى كارثة تفجير ميناء بيروت. غياب مثل هذا الوعي ليس مستغربا من طرف لم يستوعب معنى مشاركته “حزب الله” في الاعتصام وسط بيروت في نهاية العام 2006 بغية المباشرة في تدمير الحركة الاقتصادية في العاصمة، في مرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري ورفاقه.
لا يعي ميشال عون معنى إغراق المبادرة الفرنسية في متاهات السياسات اللبنانية في وقت ليس مسموحا فيه الرهان على الوقت. لم يكن مسموحا سوى الرهان على المبادرة الفرنسية التي سعت أصلا إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر حكومة مصغرة لا تضم سوى اختصاصيين، حكومة لا علاقة لها بحسابات “الثنائي الشيعي” أو “التيّار الوطني الحر”. حسابات “الثنائي” مرتبطة بمرحلة ما قبل كارثة تفجير الميناء يوم الرابع من آب – أغسطس 2020.
في الواقع، إنّها حسابات مرتبطة بالقدرة، عن طريق السلاح وفائض القوّة، على الإتيان بشخص مثل حسّان دياب إلى موقع رئيس الوزراء. هل الإتيان بـ”شيعي” يشغل موقع وزير المال، بمثابة تعويض لحزب الله عن فشله في تكرار الإتيان برئيس لمجلس الوزراء من طينة حسّان دياب؟
ينتمي ميشال عون للأسف الشديد إلى الماضي البعيد. تحركه الأحقاد المتراكمة لديه ولدى المحيطين به على أيّ شخص ناجح، بغض النظر عمّا إذا كان مسيحيا أم لا… وعلى كلّ ما هو مرتبط بأهل السنّة والدروز في لبنان. يرفض أخذ العلم بما حلّ بلبنان في السنة 2020.
إنّه بالفعل رئيس جهنّمي لم يستوعب منذ البداية ما سيترتب على وثيقة مار مخايل التي وقعها مع حسن نصرالله في شباط – فبراير 2006. لم يدرك خصوصا الثمن الذي سيدفعه المسيحيون بعدما صارت مهمتهم محصورة بتغطية سلاح “حزب الله” وبعدما صارت إيران تقرّر من هو رئيس الجمهورية المسيحي.
كان اختيار ميشال عون، ليكون رئيسا، موفقا إلى أبعد حدود بالنسبة إلى إيران، لكنه كان كارثة على لبنان. لا يمكن لعهد جهنّمي سوى أخذ اللبنانيين، ومعهم بلدهم، إلى جهنّم، علما أنّه كانت هناك خيارات أخرى متوافرة للبلد!