حصار غزة بات حالة قائمة ولا وجود في العالم لمن يسأل عن مليون ونصف مليون فلسطيني يعيشون فوق بعضهم بعضا في قطعة ضيقة من الأرض لا تشبه سوى سجن كبير.
أن تتفق السلطة الوطنية الفلسطينية، ومن خلفها حركة “فتح”، مع “حماس” على انتخابات في غضون ستة أشهر تطوّر إيجابي. هناك مأزق فلسطيني ذو أبعاد عدّة يحتاج الخروج منه إلى تفكير فيه وليس في كيفية الالتفاف عليه عن طريق انتخابات أو غير انتخابات.
يمكن للانتخابات المساعدة في الخروج من هذا المأزق كما يمكن أن تلعب، للأسف، دورا يساعد في ممارسة لعبة اسمها التسويف. لذلك لا يغني الكلام عن انتخابات بعد ستة أشهر عن طرح أسئلة في غاية البساطة: انتخابات من أجل ماذا واستنادا إلى أيّ أجندة؟ ما هو المشروع السياسي الذي يمكن أن تفضي إليه الانتخابات؟ الأهمّ من ذلك كلّه، هل تشكل الانتخابات مساهمة في استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية؟
مثل هذه الأسئلة تبدو مشروعة، خصوصا أنّ هناك شكوكا في ما إذا كانت هذه الانتخابات ستؤدي إلى تغيير حقيقي على الأرض يؤدي إلى خروج الفلسطينيين من حال الانقسام التي كرستها “حماس” في منتصف العام 2007 عندما حوّلت قطاع غزّة إلى إمارة إسلامية على الطريقة الطالبانية.
قدّمت “حماس” لإسرائيل، ولا تزال تقدّم لها أفضل هديّة يمكن أن تحلم بها. أكّدت للمجتمع الدولي ما كان يردده أرييل شارون عن أنّ “لا وجود لطرف فلسطيني يمكن التفاوض معه”. فعلت ذلك بعدما نشرت فوضى السلاح في غزّة ثمّ أطلقت كلّ الشعارات التي لا فائدة منها من نوع “فلسطين وقف إسلامي” أو “تحرير فلسطين من البحر إلى النهر”. فوق ذلك كلّه تابعت إطلاق الصواريخ في اتجاه مناطق إسرائيلية كي يتحوّل الجلاد الإسرائيلي إلى ضحيّة ويظهر الفلسطيني المقنّع الذي يسير خلف صواريخ من النوع المضحك المبكي في مظهر الجلاد.
بات حصار غزّة حالة قائمة ولا وجود في العالم من يسأل عن مليون ونصف مليون فلسطيني، لا متنفّس لهم. يعيش هؤلاء فوق بعضهم بعضا في قطعة ضيّقة من الأرض لا تشبه سوى سجن كبير في الهواء الطلق.
باستثناء سعي تركيا، التي استضافت اللقاء الفلسطيني – الفلسطيني في أنقرة، إلى تأكيد دورها الإقليمي، ليس معروفا كيف ستؤدي الانتخابات إلى تغيير في العمق يحتاج إليه الفلسطينيون أكثر من أيّ وقت. يمكن للانتخابات أن تكون مدخلا إلى تغيير كبير، مثلما يمكن أن تكون تكريسا لأمر واقع مستمرّ منذ 2007. الأهمّ من ذلك كلّه، يمكن أن تكون الانتخابات جسرا إلى تحوّل يفضي إلى ولادة قيادة فلسطينية مختلفة تستطيع امتلاك برنامج وطني بعيدا عن عقد الماضي. المقصود بعقد الماضي هو فشل “حماس” في أن تكون شيئا آخر غير أداة إسرائيلية من جهة وتحوّل السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة محمود عبّاس (أبو مازن) إلى نظام عربي آخر.
لا يزال “أبومازن” في موقع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية منذ العام 2005. عمل كلّ شيء من أجل ألّا تكون إلى جانبه أيّ شخصية فلسطينية ذات وزن. اختزل كلّ السلطة الوطنية في شخصه بعدما كان متوقعا منه لعب دور الشخصية الواعية التي تسعى إلى بناء مؤسسات فلسطينية قابلة للحياة تكون شاهدا حقيقيا على أن الفلسطينيين يستأهلون بالفعل دولة مستقلّة وأن وجودهم على الخارطة السياسية للمنطقة يجب ترجمته إلى وجود على الخارطة الجغرافية، لا لشيء سوى لأنّهم شعب حي يمتلك هويته الوطنية التي لم تستطع إسرائيل إلغاءها.
المخيف أنّ “أبو مازن” يتحدّث وكأنّه يعيش في عالم آخر. ردّد في خطابه إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة كلّ الكلام الذي كان يردّده في خطاباته السابقة. لم يأخذ علما بالحاجة إلى تطوير الخطاب الفلسطيني لمواجهة التطرّف الإسرائيلي بذكاء. هل من مصلحة فلسطينية في مهاجمة الإدارة الأميركية، حتّى لو اتخذت هذه الإدارة مواقف مجحفة في حق الفلسطينيين؟ هل من مصلحة فلسطينية في الإشارة بطريقة سلبية إلى اتفاقي السلام بين إسرائيل وكلّ من دولة الإمارات العربية المتّحدة ومملكة البحرين؟
ثمّة حاجة فلسطينية إلى العودة إلى أرض الواقع وعدم إضاعة البوصلة. ثمّة حاجة فلسطينية إلى التصالح مع الحقيقة. الحقيقة تقول إنّ “أبومازن” لا يستطيع انتقاد مصر أو الأردن، البلدين المرتبطين بمعاهدتي سلام مع إسرائيل… ولا يستطيع مغادرة منزله أو الخروج من الضفّة من دون إذن إسرائيلي. من حقّ الرئيس الفلسطيني القول “سوف نواصل صناعة الحياة وبناء الأمل تحت راية الوحدة الوطنية والديمقراطية، والتصدي لمحاولات ومخططات شطبنا وإلغائنا، وسوف نستمر في انتزاع مكانتنا الطبيعية بين الأمم، وفي ممارسة حقوقنا التي كفلتها الشرائع الدولية، بما في ذلك حقنا في مقاومة الاحتلال وفقا للقانون الدولي، كما سنواصل بناء مؤسسات دولتنا وتدعيمها على أساس سيادة القانون. سنستمر في محاربة الإرهاب الدولي، كما كنا خلال كل السنوات الماضية، وسوف نبقى الأوفياء للسلام والعدل والكرامة الإنسانية والوطنية مهما كانت الظروف”.
يبقى الكلام الجميل كلاما جميلا. لكنّ هذا الكلام عن الوحدة الوطنية الفلسطينية والديمقراطية يصبح بالفعل جميلا إذا شرح لنا الذين توصلوا إلى اتفاق أنقرة في شأن إجراء انتخابات فلسطينية عن أيّ وحدة وطنية يتحدّثون. هل هناك من يستطيع إقناع “حماس” بأنّ تتوقف عن عملية تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني، الذي هو في الأصل بين أكثر المجتمعات العربية انفتاحا؟ لنذهب إلى ما هو أبسط من ذلك. لماذا لا يستطيع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الذهاب إلى غزّة؟
هناك حاجة إلى التوقف عن بيع الأوهام. هناك حاجة إلى استعادة البوصلة الفلسطينية. هناك حاجة إلى التكيّف مع المستجدات الدولية والإقليمية. هناك حاجة إلى الاعتراف بأنّ الوحدة الوطنية لا تستعاد عن طريق استرضاء تركيا أو إيران أو الاعتراف بشرعية ما تقوم به “حماس” في غزّة.
لا يمكن إجراء انتخابات فلسطينية من دون رؤية واضحة تقوم قبل كلّ شيء على المحافظة على القرار الفلسطيني المستقلّ بعيدا عن تدخّل تركيا وإيران وبعيدا عن التبرّع بآراء في شأن التطبيع مع إسرائيل. لم يقدم أي طرف عربي، باستثناء مصر، على أي تطبيع مع إسرائيل قبل اتفاق أوسلو الفلسطيني – الإسرائيلي في العام 1993. هل سأل أحد القيادة الفلسطينية لماذا كان أوسلو؟ على العكس من ذلك، كان هناك تفهّم واضح للخطوة الفلسطينية التي فرضتها ظروف معيّنة… وأوصلت ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، إلى البيت الأبيض.
مرّة أخرى، نعم لانتخابات فلسطينية… ولكن من أجل ماذا؟ هل سيتغيّر شيء في الوضع القائم حاليا فتعود الضفّة إلى غزّة، وتعود غزّة إلى الضفّة؟