بقلم - خير الله خير الله
لم يكن امام الرئيس عبدالفتاح السيسي من خيار آخر غير التكشير عن الانياب المصرية. هناك تهديدان مباشران تتعرّض لهما مصر اولّهما ليبيا وثانيهما سدّ النهضة الذي تبنيه اثيوبيا. ان تسيطر تركيا على معظم ليبيا مع ترك مناطق صغيرة لنفوذ القوات التي يقودها خليفة حفتر هو نهاية للدور المصري في الإقليم. ان تستمرّ اثيوبيا في بناء سدّ النهضة بغية الحصول على ما تريده من مياه النيل، من دون ان تأخذ في الاعتبار مصالح القاهرة، هو بمثابة اعتداء مباشر على ما يُعتبر شريان الحياة بالنسبة الى مصر.حصل استضعاف لمصر. ادّى ذلك الى تجرّؤ تركي على الذهاب الى ليبيا عسكريا. استطاعت تركيا مستعينة بأسلحة متطورة، بما في ذلك طائرات من دون طيّار، الحاق سلسلة من الهزائم بالقوات التي في امرة حفتر. هذا واقع لا يمكن تجاهله بعد النجاح التركي في فكّ حصار الجيش الليبي لطرابلس.هناك نيّة تركية واضحة في الذهاب الى ابعد من طرابلس ومحيطها وصولا الى سرت ذات الموقع الاستراتيجي. لم تتردد تركيا بالاستعانة بمرتزقة سوريين أجبرت معظمهم على القتال في ليبيا في سياق حملتها العسكرية.من الواضح انّ الرئيس رجب طيّب اردوغان استطاع في الفترة الأخيرة لعب أوراقه بطريقة جيّدة مستفيدا من الغطاء الأميركي من جهة ومن كون تركيا عضوا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) من جهة اخرى. لعلّ اكثر ما استفاد منه اردوغان تراجع المشروع التوسّعي الإيراني، وهو تراجع جعل طهران في حاجة الى انقرة لاسباب عدّة بينها نتيجة العقوبات الأميركية.لم يعد في استطاعة مصر تجاهل هذا الواقع في وقت تجاوز الدور التركي، المستفيد من الدعم المالي القطري، ليبيا. في حال استمرّ التقدّم التركي في ليبيا بالاعتماد الواضح على قوى معيّنة بينها ميليشيات محسوبة على الاخوان المسلمين، لن يعود بعيدا اليوم الذي تصبح فيه تركيا، ومن خلفها الاخوان، على الحدود المصرية.الى اشعار آخر، تمثّل تركيا الاخوان المسلمين ولا يمكن وضع رجب طيّب اردوغان خارج الاطار الاخواني.لا وجود لشكّ بانّ تركيا حققت مكاسب في سوريا. يبدو ان ذلك ليس كافيا بالنسبة الى اردوغان الذي يعيش في وهم حلم استعادة امجاد الامبراطورية العثمانية، وهو حلم اقرب الى الوهم من ايّ شيء آخر. استطاع الرئيس التركي اعادة ترتيب أوراقه، بما في ذلك العلاقة مع واشنطن حيث هناك تعاطف معه، خصوصا في البيت الأبيض. كذلك، ظهرت حاجة روسية اليه في ضوء الصعوبات التي تواجه الرئيس فلاديمير بوتين في سوريا. في أساس هذه الصعوبات العجز عن الاتكال على فعالية القوات التي لا تزال بإمرة بشّار الأسد من جهة والشعور الدائم بالريبة حيال الدور الإيراني القائم على الاستثمار في اثارة الغرائز المذهبية من جهة اخرى. فوق ذلك كلّه، ليس امام روسيا من خيار آخر غير ان تأخذ في الاعتبار مصالح إسرائيل وتوجهاتها، خصوصا في ما يتعلّق بمستقبل الوجود الإيراني في سوريا.لا يمكن تجاهل ان في استطاعة مصر اللعب على وجود اختلافات تركية – روسية كان افضل تعبير عنها الغاء الزيارة التي كان مفترضا ان يقوم بها لانقرة قبل ايّام وزيرا الخارجية والدفاع الروسيان سرغي لافروف وسرغي شويغو. تشير معلومات رشحت عن سبب الغاء الزيارة في اللحظة الأخيرة، او تأجيلها، الى مطالب تركية معيّنة في سوريا وليبيا ليس في استطاعة روسيا الموافقة عليها.من الإيجابيات انّ الرئيس المصري قال كلاما موزونا يستند الى معرفته بقدرات مصر ورغبته في تفادي المبالغات والمغامرات العسكرية من نوع تلك التي شهدتها ايّام جمال عبد الناصر. تحدّث السيسي عن اهمّية الجيش المصري وقدراته، لكنه شدّد على دوره "الدفاعي". في نهاية المطاف، في حال تدخلت مصر في ليبيا ومنعت تركيا من الوصول الى سرت، فهي تدافع عن نفسها قبل ايّ شيء آخر.لدى مصر اوراقها، مثلما انّ لدى تركيا اوراقها. من أوراق تركيا المال القطري ودعم التنظيم العالمي للاخوان المسلمين لها وكونها عضوا في الناتو، فضلا عن الغطاء الأميركي والانقسام الاوروبي في شأن ليبيا، خصوصا بين فرنسا وإيطاليا. من بين أوراق مصر الاختلافات التركية – الروسية التي في أساسها مبالغات رجب طيب اردوغان. هناك أيضا الدعم الفرنسي ودعم اليونان وقبرص المعنيتين مباشرة بالحدّ من الدور التركي الذي فرض اتفاقا للحدود البحرية البحرية مع حكومة الوفاق في طرابلس، وهو اتفاق يمس المصالح اليونانية والقبرصية.الاهمّ من ذلك كلّه انّ مصر، التي انقذت نفسها من براثن الاخوان السلمين في مثل هذه الايّام من العام 2013، تجد نفسها مجبرة على لعب دور في مجال التصدّي للمشروع التركي الذي يهدّدها والمستوحى من فكر اردوغان ومن تجربة المشروع التوسّعي الإيراني. مثل هذا التصدّي يتطلب مزيدا من التنسيق مع السودان الذي يعتمد أيضا على مياه النيل والذي سيتضرر أيضا من سدّ النهضة. إضافة الى ذلك كلّه، تستطيع مصر لعب دور فعّال في مجال منع تركيا من تطويقها من مكان آخر قريب منها. هذا المكان هو قطاع غزّة الذي تسيطر عليه حركة "حماس" التي هي جزء لا يتجزّأ من التنظيم العالمي للاخوان المسلمين.الطبيعي ان تكون غزّة ملعبا مصريا وليس ملعبا تركيا وايرانيا كما الحال الآن. ما هو اكثر من طبيعي، ان يكون القطاع منطقة نفوذ مصرية وليس "ساحة" تعدّ فيها مؤامرات ذات طابع ارهابي على مصر وامنها الوطني ودورها الإقليمي المفترض.ثمّة دعم عربي لمصر في مواجهة التحديات التركية التي شملت التدخل في اليمن وإقامة مناطق نفوذ لها في الصومال. هناك أيضا رهان على مصر. كان لتركيا في مرحلة معيّنة وجود في السودان الذي كان أيضا مكانا تتحرك فيه ايران في عهد عمر حسن البشير غير المأسوف عليه.سيظلّ التحدي الأكبر قدرة مصر على إعادة بعض التوازن الى المنطقة العربية في ظلّ ما سمته جامعة الدول العربية "تنمّرا" على العرب تمارسه تركيا وايران واثيوبيا. الأكيد ان ذلك سيعني دورا مصريا مختلفا في المنطقة، خصوصا في ليبيا وما هو ابعد من ليبيا. المهمّ في سياق هذا الدور وفي اطاره الابتعاد المصري عن ايّ أوهام بالنسبة الى مستقبل النظام السوري الذي لم يعد لديه من دور يذكر غير الانتهاء من تفتيت سوريا لا اكثر.