متى يتصالح نصرالله مع الواقع ومع الأرقام؟ هذا هو السؤال الذي يستتبعه سؤال أكثر أهمّية منه هو هل يمتلك “حزب الله” حرّية السير في سياسة لبنانية على علاقة بهموم اللبنانيين.
كيف يمكن تصديق أيّ كلمة قالها الأمين العام لـ”حزب الله” في لبنان حسن نصرالله في خطابه الأخير؟ كانت مناسبة الخطاب ذكرى مرور 14 عاما على نهاية حرب صيف العام 2006. راح يتحدّث في كلمته عن انتصارات تحققت على إسرائيل. في الواقع هناك انتصار وحيد تحقّق نتيجة حرب صيف 2006، هو انتصار “حزب الله”، أي إيران، على لبنان واللبنانيين.
شيئا فشيئا، تحوّل لبنان، بعد حرب 2006 إلى بلد بائس مغلوب على أمره في عزلة عربية ودولية وفي أزمة اقتصادية ليس أفضل ما يعبّر عنها أكثر من انهيار النظام المصرفي اللبناني واحتجاز أموال المودعين من لبنانيين وعرب وأجانب. إذا كانت كلّ الانتصارات من هذا النوع، فما الذي يمكن الحديث عنه عندما تكون هناك هزيمة، بكلام أوضح، ما هو المفهوم العلمي للهزيمة التي كان تفجير ميناء بيروت، بكل ما حمله من مآس، فصلا أخيرا متمّما لها؟
هناك لغتان تفسّران الحال التي بلغها لبنان. هناك لغة الواقع وهناك لغة الأرقام. بلغة الواقع، لو كان لبنان انتصر فعلا في حرب صيف 2006 التي افتعلها “حزب الله”، لما كان البلد في حال يرثى لها. هذا هو الواقع الذي يعيش فيه البلد. بعد 14 عاما على صدور القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن، لم يعرف لبنان كيف يستفيد من هذا القرار الذي يستند إلى قرارات سابقة بينها القرار 1559 للعام 2004 وهو قرار يعني بين ما يعنيه انسحاب كلّ القوات الأجنبية من لبنان وحلّ الميليشيا الوحيدة الباقية، أي “حزب الله”.
بلغة الأرقام، فقد الاقتصاد اللبناني ما يزيد على نصف حجمه. الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ الثقة العربية والعالمية بلبنان لم تعد موجودة. بيروت نفسها لم تعد موجودة. صمد لبنان طويلا في مواجهة ثقافة الموت التي سعت إلى القضاء عليه. صمد طويلا منذ العام 1969 تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي أسّس لحرب 1975 ثم للحروب الأخرى التي لم ينهها الخروج العسكري الفلسطيني من لبنان… بل استمرّت مع حلول السلاح الإيراني مكان السلاح الفلسطيني برعاية النظام السوري.
بعد مضي 14 عاما على انتهاء حرب صيف 2006، التي كان الهدف منها خلق حدث كبير للتغطية على جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه والجرائم الأخرى التي طالت أشرف اللبنانيين، من سمير قصير إلى محمّد شطح، نجد لبنان في حال لا يحسد عليها.
يبدو مطلوبا من “حزب الله” تكريس هذه الحال التعيسة والمزرية التي أصبح فيها اللبنانيون فقراء. أصبح لبنان من دون مدارس. لم يعد هناك مستشفى لبناني يعمل على نحو طبيعي في ظلّ رئيس للجمهورية اسمه ميشال عون ليس معروفا هل هو على تماس مع ما يدور على أرض لبنان أم يعيش في عالم آخر.
عندما يشيد حسن نصرالله في خطابه بميشال عون ومواقفه، ليس معروفا بماذا يشيد في الواقع. هل هو يشيد برجل مستعد للوصول إلى رئاسة الجمهورية بأي ثمن كان، بما في ذلك تحالفه مع صدّام حسين في 1988 و1989 و1990 عندما رفض حافظ الأسد الموافقة على أن يكون رئيسا للجمهورية؟
بأيّ ميشال عون يشيد حسن نصرالله؟ هل يشيد بالدور الذي رُسم له كي يلعبه عندما ذهب إلى واشنطن وأقرّ الكونغرس قانون محاسبة سوريا في مرحلة ما بعد الاجتياح الأميركي للعراق؟
في كلّ الأحوال، هناك وضع لبناني جديد لا يجوز فيه الحديث عن عهد لم يعد له أي وجود. متى يتصالح حسن نصرالله مع الواقع ومع الأرقام؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يستتبعه سؤال أكثر أهمّية منه هو هل يمتلك “حزب الله” حرّية السير في سياسة لبنانية على علاقة بهموم اللبنانيين وتطلعاتهم. إن اللبنانيين من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق يطالبون، في معظمهم، بالتصالح مع الواقع والأرقام. ليس كافيا تهديد اللبنانيين بـ”الغضب” كي يتذكّروا غزوة بيروت والجبل في أيّار – مايو 2008.
كانت تلك الغزوة التي استهدفت أهل بيروت والجبل بغطاء من ميشال عون وجماعته حلقة في الانقلاب الذي توّج في 31 تشرين الأوّل – أكتوبر 2016 بانتخاب مجلس النوّاب لميشال عون رئيسا للجمهورية. كان ميشال عون نفسه يصف هذا المجلس المنتخب في العام 2009 بأنه “غير شرعي”. صار هذا المجلس شرعيا بين ليلة وضحاها بمجرّد انّه انتخب ميشال عون رئيسا للجمهورية!
من حقّ اللبنانيين سؤال حسن نصرالله عن هدف “حزب الله” من وراء تمسّكه بسلاحه، خصوصا أنّ التفجير الذي حصل في ميناء بيروت كشف أنّ هذا السلاح لم يستخدم سوى لتغطية الفساد في لبنان. ليس ضروريا أن يكون “حزب الله” يخزّن سلاحا في عنابر ميناء بيروت الذي يستطيع أن يفعل فيه ما يشاء، كما يعرف كلّ تفصيل من التفاصيل المتعلّقة بسير العمل فيه. لكنّ الضروري أن يعتذر الحزب من اللبنانيين لأنّ سلاحه تولّى تغطية سلطة فاسدة. من ثمار الفساد وصول حسّان دياب إلى موقع رئيس مجلس الوزراء.
في النهاية، لا تفيد المكابرة في شيء. عندما يصل لبنان إلى ما وصل إليه في “عهد حزب الله” و”حكومة حزب الله”، لا مجال للكلام عن أي انتصارات من أي نوع. هناك انتصار واحد حققه “حزب الله” هو الانتصار على لبنان وعلى ثقافة الحياة فيه… وهناك هزائم على مدّ العين والنظر في غياب رؤية واضحة لما يريده “حزب الله” غير رؤية إيران التي تعتبر لبنان مجرّد “ساحة”.
في غياب أيّ قدرة على كسر طوق الهيمنة الإيرانية، لا مجال لأيّ مصالحة بين حسن نصرالله من جهة والواقع والأرقام من جهة أخرى. في غياب مثل هذه المصالحة، التي تعني أوّلا أن الانتصار على لبنان ليس انتصارا على إسرائيل، ليس أمام اللبنانيين سوى الرهان على الوقت وعلى ما طرحه البطريرك الماروني بشارة الراعي عن “الحياد النشط”.
ما طرحه الراعي ليس من بنات أفكاره، خصوصا أنّه معروف كيف أصبح المطران الراعي بطريركا، بمقدار ما أنّه محاولة أخيرة من المجتمع الدولي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان. أنّه لبنان، البلد العربي المتعدد الطوائف والمنفتح على العالم، الذي يتعرّض لضغوط من أجل تحوّله إلى مجرد أداة إيرانية في “عهد حزب الله” و”حكومة حزب الله” المستقيلة، وهي حكومة حققت إنجازا واحدا هو تتفيه التفاهة ولا شيء آخر غير ذلك. هذا إنجاز في حدّ ذاته…