سيكون صعبا على فرنسا إيجاد مكان لها في العراق في ظلّ التجاذبات الأميركية – الإيرانية، خصوصا أنّ النظام في “الجمهورية الإسلامية” يلعب ورقة مستقبله في العراق.
تحاول فرنسا مجددا إيجاد موطئ قدم لها في العراق. تحاول الاستفادة من عوامل عدّة ذات طابع إقليمي ومن وجود مصطفى الكاظمي في موقع رئيس الوزراء. أخذت فرنسا علما بسعي الكاظمي إلى جعل العراق يستعيد موقعه كإحدى الدول المهمّة في المنطقة المتمتّعة بحدّ أدنى من الاستقلالية في مجال اتخاذ قراراتها واستغلال ثرواتها.
كان لا بدّ من تحرّك الرئيس الفرنسي في اتجاه بغداد، خصوصا أن بلده يعرف العراق جيدا وسبق له أن لعب دورا على غير صعيد فيه في مناسبات عدّة. ليس معروفا إلى أيّ حد يمكن أن ينجح ماكرون في مهمته العراقية. في الواقع، ذهب الرئيس الفرنسي إلى بلد يحتاج إلى الكثير من أجل استعادة بنيته التحتية. ما يمكن أن يساعده في مهمّته أن الشركات الفرنسية تعرف الكثير من الملفّات العراقية، من السلاح إلى الكهرباء، إلى مترو بغداد…
انتقل الرئيس إيمانويل ماكرون من بيروت إلى بغداد بعدما نجح في إجبار المسؤولين في لبنان على السير في طريق تشكيل حكومة جديدة برئاسة مصطفى أديب الذي هبط بقدرة قادر وبشكل مفاجئ على موقع رئيس مجلس الوزراء. لا تزال الطريق طويلة أمام فرنسا الساعية إلى إنقاذ لبنان من اللبنانيين ومما فعلوه ببلدهم الذي صار تحت هيمنة “حزب الله”، أي إيران.
ليس سرّا أن هناك فارقا كبيرا بين لبنان والعراق. لكن الأكيد أن هناك نقاط التقاء بين البلدين. لعلّ نقطة الالتقاء الأهم تتمثّل في أطماع إيران في العراق ولبنان اللذين تفصل الأرض السورية بينهما، وهي أرض صارت تحت خمسة احتلالات، ولم يعد فيها من يصدّق أنّ الجمهورية العربية السورية ليست في حاجة إلى إعادة تركيب من جديد، سوى بشّار الأسد. يعود ذلك إلى أنّ رئيس النظام السوري يعيش في عالم خاص به، في مكان آخر غير سوريا ومنطقة أخرى لا علاقة لها بالشرق الأوسط وما يدور فيه.
ما الذي يمكن لرئيس فرنسا عمله في مجال مساعدة مصطفى الكاظمي في مواجهة التحديات التي تواجه العراق؟ هل يكفي أن يذهب ماكرون إلى بغداد كي يتبيّن أن في استطاعة بلده دعم العراق في مواجهة التحدي الجديد الذي اسمه التحدي التركي الذي يجمع بين بغداد وباريس؟ باختصار شديد، تكمن مشكلة فرنسا في أنّها تمتلك المشاريع الخاصة بالعراق، لكنّها لا تمتلك القدرة على تمويل هذه المشاريع. فرنسا ليست في وضع مالي مريح، كذلك العراق الذي يمكن اعتباره بلدا مفلسا بعدما بدّدت الحكومات الموالية لإيران منذ العام 2006 كلّ الأموال التي دخلت الخزينة في مرحلة كان فيها سعر برميل النفط مرتفعا. تقدّر هذه الأموال بمئات مليارات الدولارات.
تمتلك فرنسا كلّ النيات الحسنة، لكنّ السؤال هل تمتلك الوسائل التي تسمح لها بتحويل هذه النيّات إلى واقع، بما في ذلك التعاطي مع السياسات الخطرة لإيران ومشروعها التوسّعي ومع سعي تركيا إلى استعادة أمجاد الدولة العثمانية من العراق إلى ليبيا، مرورا بثروات البحر الأبيض المتوسط؟
ليس سرّا أن هناك فارقا كبيرا بين لبنان والعراق، لكن الأكيد أن هناك نقاط التقاء بين البلدين، لعلّ نقطة الالتقاء الأهم تتمثّل في أطماع إيران في العراق ولبنان اللذين تفصل الأرض السورية بينهما
سيكون إيمانويل ماكرون قادرا على لعب دور إيجابي في حال كان هناك تنسيق بالعمق مع الإدارة الأميركية. ليس معروفا، إلى هذا اليوم، هل مثل هذا التنسيق موجود وما موقف أميركا من سعي فرنسا إلى أن تكون موجودة في العراق؟
في كلّ الأحوال، إنّ ماكرون يعمل من أجل أن تكون فرنسا لاعبا إقليميا. هل هذا ممكن في السنة 2020؟ لا شكّ أنّه حقق نجاحا نسبيا في لبنان، خصوصا إذا تشكّلت حكومة جديدة تضمّ اختصاصيين وخبراء لا وجود لـ”حزب الله” فيها ولا وجود للتيّار العوني الذي لم يستطع أن يشارك في أيّ حكومة لبنانية سوى بوزراء فاشلين وساقطين على كلّ المستويات. كلّ ما فعله جبران باسيل، عندما كان وزيرا للخارجية، أنّه كان وزير خارجية “الجمهورية الإسلامية” في مجلس جامعة الدول العربية وصوتها.
سيحتاج ماكرون إلى ما هو أكثر من العلاقات التي ربطت فرنسا بالعراق في الماضي من أجل تحقيق اختراق في بغداد. سيحتاج إلى أكثر من تجاوب رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. سيحتاج، قبل كلّ شيء إلى دعم أميركي ليس هناك ما يشير إلى أنّه متوافر وإلى تنسيق مع الدول العربية الخليجية، على رأسها المملكة العربية السعودية، التي طرأ تحسّن على علاقتها بالعراق منذ أصبح مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء.
تعرف فرنسا العراق جيّدا. دعمته في الحرب التي خاضها مع إيران بين العامين 1980 و1988. كان فرنسوا ميتران، الرئيس الفرنسي وقتذاك، يعرف تماما ما الذي يعنيه انتصار إيران على العراق وما الذي يعنيه خصوصا انهيار الحدود بين العراق وإيران، وهو ما حصل بالفعل بفضل غباء إدارة جورج بوش الابن في العام 2003. وقتذاك، عارض الرئيس جاك شيراك الحرب الأميركية على العراق وحذّر من نتائجها وكان على حقّ. في المقابل، لم تقدّر الإدارة الأميركية معنى إسقاط النظام العراقي من دون أن تكون لديها خطة عمل واضحة وعملية للمرحلة التالية… باستثناء تلبية رغبات إيران.
نظريا، كانت فرنسا في كلّ وقت متقدّمة على غيرها. عمليا، ينطبق على فرنسا في المرحلة الراهنة المثل القائل: العين بصيرة واليد قصيرة. في النهاية ما الذي استطاعت عمله في ليبيا في مواجهة الغزو التركي لجزء من ذلك البلد وما الذي تستطيع عمله في لبنان والعراق للحدّ من الدور التخريبي لإيران؟
الأكيد أن اللبنانيين ليسوا معترضين، في أكثريتهم الساحقة، على دور فرنسي في لبنان، ولكن ليس معروفا، في ما يخص العراق، هل يتذكّر العراقيون شيئا عن تاريخ العلاقة مع باريس على الرغم من أنّ هذا التاريخ يعود إلى آخر سبعينات القرن الماضي، أي إلى نحو نصف قرن فقط.
سيكون صعبا على فرنسا إيجاد مكان لها في العراق في ظلّ التجاذبات الأميركية – الإيرانية، خصوصا أنّ النظام في “الجمهورية الإسلامية” يلعب ورقة مستقبله في العراق. أمّا بالنسبة إلى التصدي للدور التركي في المنطقة، وهو دور بات يهدّد العراق أيضا، ليس معروفا ما الذي تستطيع فرنسا عمله في هذا المجال باستثناء التنسيق الدبلوماسي مع بلد لا يزال كلّ شيء فيه معلّقا على نجاح حكومة مصطفى الكاظمي في إعادته إلى خارطة المنطقة…