لم يبق ما يكفي من الوقت لممارسة ألاعيب إيرانية وغير إيرانية ستقضي على كلّ الطوائف اللبنانية، بما في ذلك الشيعة والسنّة والمسيحيون والدروز لا فارق.
بات واضحا أن الخطوة التي أقدم عليها رئيس الوزراء السابق سعد الحريري والقاضية بالقبول بأن يكون وزير المال في حكومة مصطفى أديب “شيعيا”، كانت بناء على طلب فرنسي. يؤكد ذلك مسارعة وزارة الخارجية الفرنسية إلى وصف مبادرة الحريري بـ”الشجاعة”. لا شكّ أنّ الرئيس إيمانويل ماكرون وضع ثقله خلف خطوة سعد الحريري، نظرا إلى أن تشكيل حكومة، وفق مواصفات معينة، يشكّل الحجر الأساس في مبادرته اللبنانية. أكثر من ذلك، أن نجاح هذه المبادرة صار مرتبطا بشخص الرئيس الفرنسي.
يتبيّن، أقلّه إلى الآن، أنّ ثمّة رغبة لدى “الثنائي الشيعي” في تفادي الدخول في مواجهة مباشرة مع فرنسا التي ترفض، إلى إشعار آخر، إدراج “حزب الله” في قائمة الإرهاب على الرغم من كلّ الضغوط الأميركية وعلى الرغم من أن ألمانيا فعلت ذلك.
يسعى “الثنائي الشيعي”، الذي يتحكّم به “حزب الله”، إلى حدّ كبير، إلى تكريس أن يكون أي وزير للمال في الحكومة اللبنانية، من الآن فصاعدا، “شيعيا”. يريد الثنائي فرض أمر واقع وتحويل ذلك إلى قاعدة وإلى جزء لا يتجزّأ من عملية تشكيل الحكومة اللبنانية. بدل أن يتخلّص لبنان شيئا فشيئا من المحاصصة القائمة على الطائفية والمذهبية، يسعى “الثنائي الشيعي” إلى تكريس المحاصصة وتكريس الطائفية والمذهبية وذلك بعدما اعتبر أنّه وضع يده على الطائفة الشيعية.
أكثر من ذلك، يعتبر “حزب الله” أنّه استطاع بفضل سلاحه ومثابرته تغيير طبيعة المجتمع الشيعي، الذي لا يزال قسم كبير منه يرفض هيمنة الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” وبالتالي إيران. إنّ حسابات “حزب الله”، خصوصا بعد نجاحه في فرض رئيس الجمهورية المسيحي على اللبنانيين في 31 تشرين الأوّل – أكتوبر 2016، باتت تقوم أساسا على تغيير طبيعة المجتمع اللبناني كلّه وتغيير طبيعة تموضع البلد على الصعيد الإقليمي بصفة كونه جرما يدور في الفلك الإيراني لا أكثر.
ثمّة ما هو أبعد من القبول بوزير المال “الشيعي” في وقت بات مصير لبنان مطروحا على المحكّ. هذا يعود بكلّ بساطة إلى أن تشكيل حكومة جديدة برئاسة مصطفى أديب سيعني الكثير. سيعني قبل كلّ شيء أنّ في لبنان حكومة من نوع مختلف لا تضمّ ممثلين للأحزاب التي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه. صحيح أنّه يمكن القول إن سعد الحريري قدّم تنازلا كبيرا، بل تراجع في مواقفه، وهو تراجع لا تقبل به بيئته السنّية ولا الحلفاء، لكنّ الصحيح أيضا أنّ هناك تشديدا على أمرين. الأوّل أنّ من يختار وزير المال الشيعي هو سعد الحريري نفسه، وهذا ما ورد صراحة في المبادرة التي قدّمها رئيس الوزراء السابق. إضافة إلى ذلك، أنّ قبول سعد الحريري بوزير المال “الشيعي” مرتبط بأنّ ذلك يسري لمرّة واحدة فقط. أي أن لا تكريس للعرف القائل أنّ وزارة معيّنة، مثل وزارة المال، صارت ملكا لطائفة معيّنة.
عاجلا أم آجلا بعدما استطاع سعد الحريري رمي الكرة في ملعب "الثنائي الشيعي" سيُتبيّن هل هناك استعداد إيراني للأخذ والرد مع فرنسا أم أن الرهان الإيراني لا يزال قائما على فكرة واحدة
في النهاية، المهمّ تشكيل حكومة لا تضمّ سوى رجال يتمتعون بكفاءات بعيدا عن تلك الشخصيات التي فرض كثيرين منها “الثنائي الشيعي” في الماضي أو “التيّار الوطني الحر” في كلّ وقت. يندرج تشكيل مثل هذه الحكومة في صلب مبادرة إيمانويل ماكرون الذي فاته عندما جاء إلى بيروت مباشرة بعد كارثة المرفأ في الرابع من آب – أغسطس الماضي، أن هناك لبنان الجديد، لبنان “حزب الله”. أخذ ماكرون علما بحجم الكارثة. أخذ علما بشكل خاص بأنّ لبنان انهار وأن المطلوب إنقاذ ما يمكن إنقاذه بدءا بتشكيل “حكومة مهمّة” مختلفة جذريا عن “حكومة حزب الله” التي شكّلها حسّان دياب في “عهد حزب الله”.
باختصار شديد، يحتاج لبنان إلى عهد جديد، هو عهد حكومة مصطفى أديب بمواصفات معروفة. سيتوقّف الكثير على الحسابات الإيرانية. ليس “حزب الله”، في نهاية المطاف، سوى أداة إيرانية لا أكثر. هل من مصلحة إيرانية في مراعاة ماكرون؟ هل لدى ماكرون ما يضغط به على إيران… أم أنّ “الجمهورية الإسلامية” ما زالت متمسّكة برهانها؟ الرهان الإيراني معروف أكثر من اللزوم. يقوم هذا الرهان على انتظار الانتخابات الأميركية في الثالث من تشرين الثاني – نوفمبر المقبل.
تعتقد إيران أنّ جو بايدن سيكون أفضل بكثير من دونالد ترامب وأن انتخابه رئيسا سيؤدي إلى عودة شهر العسل مع “الشيطان الأكبر”، كما كانت عليه الحال في عهد باراك أوباما.
سيتبيّن عاجلا أم آجلا، بعدما استطاع سعد الحريري رمي الكرة في ملعب “الثنائي الشيعي” هل هناك استعداد إيراني للأخذ والرد مع فرنسا، أم أن الرهان الإيراني لا يزال قائما على فكرة واحدة. تقوم هذه الفكرة على أن لبنان مجرّد ورقة إيرانية ولا شيء آخر.
لبنان، في نظر إيران، ليس سوى ورقة بغض النظر عمّا يحلّ باللبنانيين وببلد سقطت كلّ مقومات وجوده. لبنان بلد من دون كهرباء، لبنان بلد انهار فيه النظام المصرفي، لبنان بلد انهار فيه قطاع الخدمات. ميناء بيروت صار مدمّرا ومعه جزء من المدينة. هذا غيض من فيض ما حلّ بلبنان حيث النظام التعليمي صار جزءا من الماضي. كان لبنان مستشفى وجامعة وفندقا ومصرفا. لم يبق شيء من لبنان. لم يبق ما يكفي من الوقت لممارسة ألاعيب إيرانية وغير إيرانية ستقضي على كلّ الطوائف اللبنانية، بما في ذلك الشيعة والسنّة والمسيحيون والدروز لا فارق.