الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي قاطعه الجزائريون لم يكن سوى جرس إنذار يقرعه الجزائريون محذرين النظام الذي لم يتعظ إلى الآن من أي تجربة مرّ بها منذ الانتفاضة الشعبية في أكتوبر 1988.
قاطع الجزائريون الاستفتاء على الدستور الذي طرحه الرئيس عبدالمجيد تبون. قالت الأكثرية الشعبية عبر المقاطعة، إنّ المسألة ليست مسألة استفتاء أو تعديل للدستور في بلد مستقلّ منذ العام 1962. المسألة أبعد من ذلك بكثير نظرا إلى أنهّا مرتبطة بتغيير جذري في النظام والتخلّص من عقلية تحكّمت به جعلت من الجيش الحاكم الفعلي للبلد وذلك منذ الانقلاب الذي قاده هواري بومدين في العام 1965. أدّى الانقلاب إلى وضع الرئيس أحمد بن بلة في نوع من الإقامة الجبرية. لم يكن لدى بن بلة ما يكفي من المؤهلات التي تسمح له بأن يكون رئيسا للجزائر المستقلة. كان ساذجا إلى حدّ كبير. لذلك كان من السهل على الرجل القويّ في الجيش قلبه وأخذ البلد إلى نظام الحزب الواحد الذي تتحكّم به عمليا المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية التابعة لها.
يبحث الجزائريون عن “جزائر جديدة” فعلا وليس عن تعديل ذي طابع شكلي للدستور والنظام فيما تبقى الأمور على حالها وتبقى السلطة أسيرة المؤسسة العسكرية. ما فعله الجزائريون عبر مقاطعة الاستفتاء تتمة لمنع المقعد عبدالعزيز بوتفليقة، العاجز عن النطق بكلمة واحدة منذ العام 2013، من الحصول على ولاية رئاسية خامسة في العام 2019.
بعد عشرين عاما في السلطة، بينها ست سنوات كان فيها الحاكم الفعلي سعيد بوتفليقة، الشقيق الأصغر للرئيس، كان على الجزائريين النزول إلى الشارع. نزلوا كلّ يوم جمعة ابتداء من أواخر العام 2018 وبقوا ينزلون إلى أن تدخّل الجيش وأجبر بوتفليقة على الاستقالة. فعل ذلك من أجل قطع الطريق على ما يسمّى “الحراك” الشعبي وللحؤول دون تغيير في العمق يمكن أن يعيد الجزائر إلى الجزائريين.
بلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء الأخير 23.7 في المئة، استنادا إلى المعلومات الرسمية. أجري الاستفتاء في الأوّل من تشرين الثاني – نوفمبر الجاري، ذكرى انطلاق حرب التحرير من الاستعمار الفرنسي في العام 1954. لم تحرّك الذكرى الجزائريين. كلّ ما يمكن قوله إن الرقم الرسمي للمشاركة في الاستفتاء مبالغ فيه، على الرغم من هزالته. إنّه يكشف حال الطلاق بين النظام والشعب في وقت طرأ فيه جمود على الوضع السياسي بسبب وباء كورونا (كوفيد – 19).
أدى انتشار الوباء إلى توقف “الحراك” ولو مؤقتا، لكن كلّ الدلائل تشير إلى أنّ الجزائر منقسمة على نفسها أكثر من أي وقت وأن هناك رفضا كاملا للنظام القائم، خصوصا في منطقة القبائل التي شهدت بعض الاضطرابات. كان الانقسام بين الغاضبين في منطقة القبائل، خصوصا في مدن مثل تيزي وزو وبجاية من جهة واللامبالين في المناطق ذات الأكثرية العربية مثل العاصمة الجزائر نفسها من جهة أخرى. في العاصمة، انصرف الناس في الشارع إلى أعمالهم الخاصة أو التمتع بالطقس الجميل بدل التوجه إلى صناديق الاقتراع.
إلى متى تستطيع المؤسسة العسكرية تأجيل الاستحقاق الكبير في الجزائر، أي الذهاب إلى أبعد من إجراءات شكلية من النوع الذي اتخذته عندما قطعت الطريق على الولاية الخامسة لبوتفليقة؟
الأكيد أنّ كوفيد – 19 ساعد نظام المؤسسة العسكرية التي تمكنت في أواخر العام 2019 من إيصال عبدالمجيد تبون إلى الرئاسة. جعل الوباء “الحراك” يخمد، لكن الأزمة الجزائرية، وهي أزمة عميقة تعبر عن فشل نظام، غير قابل للإصلاح، بقيت تراوح مكانها. لعلّ أفضل ما يعبر عن هذه الأزمة الوضع الاقتصادي لبلد كان مفترضا أن يكون أغنى دول المنطقة في ضوء ما يمتلكه من ثروات طبيعية أوّلا وثروات إنسانية ثانيا. بقيت الجزائر أسيرة النفط والغاز وسعرهما. لم تطور أي ثروات أخرى، لا الصناعة ولا الزراعة ولا السياحة. أكثر من ذلك، جعلت من خلق المشاكل لجيرانها هواية من هواياتها. هناك نظام جزائري يعتبر الإضرار بالآخر منفعة له… حتّى لو ارتدّ الضرر على الجزائر نفسها. ما الذي يفيد الجزائر مثلا من استخدام أداة مثل جبهة “بوليساريو” في حرب الاستنزاف التي تشنها منذ العام 1975، بل منذ ما قبل ذلك، على المغرب؟ ما الذي ينفع الجزائر من إبقاء الحدود مع المغرب مغلقة منذ العام 1994 على الرغم من كل المبادرات الحسنة التي صدرت عن المغرب، بما في ذلك عن الملك محمّد السادس نفسه؟
لم يكن الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي قاطعه الجزائريون سوى جرس إنذار آخر يقرعه الجزائريون محذرين النظام. هذا النظام الذي يبدو أنّه لم يتعظ إلى الآن من أي تجربة مرّ بها منذ الانتفاضة الشعبية في تشرين الأوّل – أكتوبر 1988 في عهد الشاذلي بن جديد. لم يستطع النظام القيام بأيّ عملية نقد للذات. بقي في هروب مستمرّ إلى الأمام. لا يزال يمارس عملية الهروب هذه بدل طرح أسئلة حقيقية من نوع لماذا لا يستطيع عبدالمجيد تبون، الذي يعالج حاليا في مستشفى ألماني بعد إصابته بكورونا، من لعب دور المنقذ؟
الجواب بكلّ بساطة أنّ عبدالمجيد تبّون ليس سوى واجهة جديدة للمؤسسة العسكرية التي تعتقد أن حرب التحرير مستمرّة منذ العام 1954. تحررت الجزائر من الاستعمار الفرنسي، بحسناته وسيئاته، في العام 1962، لكنّ هم المؤسسة العسكرية لا يزال محصورا منذ ذلك التاريخ في تحرير الجزائر من الجزائريين الذين يطمحون في معظمهم إلى إيجاد تأشيرة إلى فرنسا وغير فرنسا. هناك طاقات بشرية هائلة في الجزائر لا يستطيع نظام يشرف عليه العسكر ويتحكمون به الاستفادة منها.
عاجلا أم آجلا، سيكون مصير النظام في الجزائر مطروحا، الخوف من أن يسبق ذلك انفجار كبير في بلد يسوده احتقان شعبي على كلّ المستويات.
لا تزال المؤسسة العسكرية تحتمي بأشخاص مثل رئيس الجمهورية الحالي أو بنص دستوري يحدّد دور الجيش بطريقة غامضة ويسمح له بأن يكون في كل مكان يرغب في أن يكون فيه من منطلق أنّ “الجيش الوطني الشعبي يدافع عن المصالح الحيوية والإستراتيجية للبلد استنادا إلى الإجراءات الدستورية” المعمول بها.
أين تبدأ المصالح الحيوية والإستراتيجية وأين تنتهي وما هو مفهومها؟ لا جواب واضحا عن ذلك. الأمر الوحيد الواضح أن الجزائر بلد تحكمه المؤسسة العسكرية. متى يتغيّر النظام؟ هل يحدث ذلك بعد الانفجار الداخلي أو قبله؟ الأكيد أن مقاطعة الاستفتاء حملت كلّ الإنذارات التي يمكن أن يحملها احتقان شعبي يبدو أن لا حدود له…