السؤال الكبير هل يتمكن السودان من تطوير نظامه السياسي والعودة إلى حياة برلمانية سليمة بعيدا عن الصراعات المضحكة المبكية بين الأحزاب التقليدية التي أعادت العسكر إلى السلطة المرّة تلو الأخرى.
من الواضح أن رئيس المجلس السيادي السوداني عبدالفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك شخصان واقعيان يعرفان العالم وموازين القوى فيه. يعرفان قبل كلّ شيء أين مصلحة السودان وكيفية حمايتها وكيف السبيل إلى إعادة السودان إلى حظيرة المجتمع الدولي من جهة وتحويله إلى مكان تصبّ فيه الاستثمارات الخارجية من جهة أخرى.
في منطقة تمرّ بمخاض ويتغيّر فيها كلّ شيء، بما في ذلك الخرائط، بسرعة مذهلة، وقّع الرئيس دونالد ترامب قرارا برفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. لا يزال الإعلان رسميا عن مغادرة السودان للقائمة، مع الأمل بأن يكون ذلك من دون حنين إلى العودة إليها، ينتظر دفع تعويضات بقيمة نحو 350 مليون دولار إلى عائلات أميركية تضررت من الإرهاب. تورّط السودان في الإرهاب الذي مارسته “القاعدة” وزعيمها أسامة بن لادن الذي كان في مرحلة معيّنة في حماية الإخوان المسلمين والنظام الذي أقاموه في السودان بين 1989 و2019. فرض الإخوان المسلمون ضريبة على السودان ليس أمامه سوى دفعها في مقابل إعادة تأهيله وعودته دولة محترمة.
تخلّص الشعب السوداني من نظام عمر حسن البشير العام الماضي. يُفترض بهذا الشعب الذي واجه البشير وعسكره وميليشياته بصدور عارية استتباع ذلك بالتخلّص من تركته الثقيلة التي جعلت من السودان بلدا منبوذا.
قبل أيّام قليلة، أكّد رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، الذي يبدو أنّه يمتلك جرأة ما، استعداد أميركا لرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب. قال “منذ تسلمنا المسؤولية بدأنا حوارا جدّيا مع الإدارة الأميركية”، مشيرا إلى أن “ما أنجزناه اليوم يفتح الباب واسعا لعودتنا إلى المجتمع الدولي”.
لم يخف أن هناك في النهاية حسابات ربح وخسارة وأن رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب سيفتح الباب أمام إعفاء بلاده من ديون خارجية بقيمة 60 مليار دولار، وتابع في حديث أدلى به إلى التلفزيون الرسمي أن “العقوبات حرمتنا من الاستثمار والتكنولوجيا. لا يزال الطريق طويلا أمامنا ونحتاج إلى التخطيط الجدّي”.
من خلال الثورة الشعبية التي انتهت بإطاحة عمر حسن البشير، يظهر أن هناك وعيا شعبيا كبيرا لدى السودانيين الذين تخلصوا في معظمهم من عقدة إسرائيل التي تعرف تماما كيف تستغل الفرص المتاحة من أجل تحقيق اختراقات. ليس سرّا أن مدير الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) زار الخرطوم حديثا وعقد محادثات مع كبار المسؤولين السودانيين. ليس سرّا أن عبدالفاتح البرهان قام قبل فترة بزيارة لأوغندا من أجل عقد لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
لكلّ دولة من دول المنطقة ظروفها، خصوصا في ظلّ إدارة أميركية باقية إلى نهاية السنة، إلّا إذا فاز دونالد ترامب بولاية ثانية. هذه الإدارة مهتمة بالعلاقات مع إسرائيل وتعتقد أنّه آن أوان حصول تغييرات كبيرة في كلّ الشرق الأوسط، بما في ذلك منطقة القرن الأفريقي، في ظلّ الخطر الذي تشعر به كلّ دولة معنية بسبب المشروعين التوسّعيين التركي والإيراني. يلتقي المشروعان في غير مكان وكاد السودان يكون ضحيّة من ضحايا المشروعين على غرار ما حصل في العراق وسوريا وما يمكن أن يحصل في لبنان، حيث لا يزال نفوذ تركيا ضعيفا نسبيا، في حين لا حاجة إلى الحديث عن الهيمنة الإيرانية ومدى الضرر الذي ألحقته بهذا البلد الصغير وبمجتمعه واقتصاده وتركيبته السياسية.
السودان سيكون تحت مراقبة شديدة في السنوات المقبلة. سيكون التحدّي الأكبر في القدرة على عودته دولة طبيعية وتطوير الاقتصاد وممارسة سياسة انفتاح حقيقية في كلّ الاتجاهات
المهمّ أن يحافظ السودان على أيّ مكسب يحققه في المستقبل القريب، خصوصا إذا استطاع فعليا إقامة نوع جديد من العلاقات مع الولايات المتحدة. لديه حاليا فرصة لتكريس وجود موقع له في واشنطن بغض النظر عما إذا كان ترامب سيبقى في البيت الأبيض أم أن جو بايدن سيخلفه في ضوء نتائج انتخابات الثالث من تشرين الثاني – نوفمبر المقبل.
في ضوء ما يمتلكه من ثروات وفي ضوء أهمّيته الاستراتيجية، يستطيع السودان حجز موقع له في أميركا. من يفكّر بكل الفرص التي بددها عمر حسن البشير في ثلاثة عقود، لا يستطيع إلّا أن يبدي أسفه لما آل إليه السودان الذي كان بلدا واعدا عندما نال استقلاله في العام 1956.
ما يدعو إلى التفاؤل بمستقبل السودان وجود شعب يمتلك حدّا أدنى من الوعي أصرّ على إزاحة نظام الشير. كشف هذا الشعب أن المجتمع ما زال حيّا على الرغم من ثلاثة عقود من حكم الإخوان المسلمين والتخلّف الذي فرضوه في كل زاوية من زوايا السودان.
الأكيد أن احتمال إعفاء السودان من ديونه الخارجية سيكون الجائزة الكبرى التي تقف وراءها الإدارة الأميركية الحالية التي لعبت دورا في التوصّل إلى الاتفاق في شأن إقامة علاقات طبيعية بين السودان وإسرائيل.
في النهاية، ما الذي لدى السودان يفعله بعد 41 عاما من توقيع معاهدة السلام المصريّة – الإسرائيلية؟ هل طبيعي أن يكون السودان مختلفا عن مصر بعدما كان في مرحلة معيّنة جزءا منها؟
تتغيّر المنطقة بسرعة كبيرة. هذا التغيير ليس وليد أمس. لا شكّ أن السودان يريد المحافظة على قراره المستقل وألّا يتحوّل رهينة إيران أو تركيا. حاولت هاتان القوتان في عهد البشير إيجاد موطئ قدم في السودان. كانت إيران تمتلك ما يكفي من النفوذ لتمرير أسلحة تفرّغ في السودان وتنقل منه إلى مصر ثمّ إلى قطاع غزّة الذي تسيطر عليه “حماس”. أمّا تركيا فحاولت مرارا إقامة قواعد في السودان على ساحل البحر الأحمر.
سيكون السودان تحت مراقبة شديدة في السنوات المقبلة. سيكون التحدّي الأكبر في القدرة على عودته دولة طبيعية وتطوير الاقتصاد وممارسة سياسة انفتاح حقيقية في كلّ الاتجاهات.
لم يعد السودان مأوى لا لإرهابي مثل “كارلوس” ولا لإرهابي آخر مثل أسامة بن لادن. لم يعد من مكان فيه لضابط مغامر يؤمن بسياسة الابتزاز مثل عمر حسن البشير. سيكون السؤال الكبير هل يتمكن السودان من تطوير نظامه السياسي والعودة إلى حياة برلمانية سليمة بعيدا عن الصراعات المضحكة المبكية بين الأحزاب التقليدية التي أعادت العسكر إلى السلطة المرّة تلو الأخرى بدءا بانقلاب إبراهيم عبود ثم جعفر نميري… وصولا إلى عمر حسن البشير…