من العراق كانت الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني في كل الاتجاهات وصولا إلى لبنان الذي يعاني حاليا الأمرّين بسبب التدخّل الإيراني عبر ميليشيا مذهبيّة اسمها "حزب الله".
كيف يمكن النظر إلى اتفاقي السلام اللذين وقعتهما دولة الإمارات العربية المتّحدة ومملكة البحرين مع إسرائيل برعاية أميركية في وقت يقال فيه كلام كثير لا معنى له يصدر عن مزايدين لا يريدون تفهّم أن لكل بلد من بلدان المنطقة ظروفه وطريقته الخاصة بالدفاع عن مصالحه.
لا بدّ من الاعتراف أوّلا بامتلاك كلّ من الشيخ محمّد بن زايد وليّ عهد أبوظبي وملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة الصفات القيادية والشجاعة اللازمة من أجل اتخاذ قرارات صعبة في مثل هذه الظروف المعقّدة التي تمرّ فيها المنطقة والعالم.
مثل هذا النوع من الشجاعة لا يمتلكه كثيرون من الحكّام العرب الذين يعرفون اختيار اللحظة المناسبة للإقدام على خطوة محدّدة تخدم مصلحة دولهم وشعوبهم في المديين القصير والبعيد. لو لم يتخذ الملك حسين، رحمه الله، قرارا بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل في تشرين الأوّل – أكتوبر 1994، لكان مصير الأردن اليوم في مهبّ الريح. اختار الملك حسين اللحظة المناسبة بعدما ذهب الفلسطينيون إلى اتفاق أوسلو كي يعتبر أنّه بات من حقّ المملكة الهاشمية رسم حدودها النهائية وأخذ كلّ حقوقها في الأرض والمياه. لم يأبه العاهل الأردني الراحل بالمزايدات والمزايدين ولا بالشعارات التي رفعت من أجل النيل من الأردن.
مع إسرائيل، هناك مجال لإقامة علاقات ذات منفعة متبادلة على ارتباط بالتكنولوجيا الحديثة في مجالات مختلفة وأمور أخرى كثيرة كالطب الحديث والأبحاث مثلا
ما لا يمكن تجاهله على الصعيد الإقليمي، الخلل الناتج أساسا عن الزلزال العراقي الذي وقع في العام 2003 عندما اجتاح الجيش الأميركي العراق وأسقط النظام القائم… وسلّم هذا البلد المهمّ إلى عدوّه التاريخي، أي “الجمهورية الإسلامية” في إيران. هناك خلل على الصعيد الإقليمي لا يمكن إلّا التعامل معه في ظلّ غياب العراق والدورين الإيراني والتركي.
من العراق، كانت الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني في كل الاتجاهات وصولا إلى لبنان الذي يعاني حاليا الأمرّين بسبب التدخّل الإيراني عبر ميليشيا مذهبيّة اسمها “حزب الله”.
اختلّ التوازن الإقليمي كلّيا منذ العام 2003 بعدما سقطت الحدود بين إيران والعراق، وهي حدود تحاول الحكومة العراقية الحالية، برئاسة مصطفى الكاظمي، تحصينها وإعادة الاعتبار إليها بما يضع حدّا للتغلغل والنفوذ الإيرانيين في العراق على كلّ المستويات. هل ينجح الكاظمي، الذي ليس معاديا لإيران، في مهمته التي رفع فيها شعار “العراق أوّلا”؟ هذا سؤال كبير لا تستطيع الإمارات والبحرين تمضية سنوات في انتظار الجواب عنه.
ما حصل على أرض الواقع، أن في المشرق العربي أو في منطقة الخليج كان بمثابة شبه انهيار للنظام الإقليمي الذي قام بعد تفكّك الدولة العثمانية ورسم حدود الدولة العراقية.
كان الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران يعتبر أنّ حدود العراق مع إيران هي حدود بين “حضارتين كبيرتين” هما الحضارة العربية والحضارة الفارسية وأنّ المحافظة على هذه الحدود هو محافظة على التوازن الإقليمي، خصوصا أن العراق هو من أعمدة النظام الإقليمي الذي صار عمره نحو مئة سنة. فسّر بذلك تدخل فرنسا إلى جانب العراق في العام 1981 إبان الحرب العراقية – الإيرانية لمنع سقوط الحدود بين البلدين.
عندما أقامت مصر سلاما مع إسرائيل ووقعت معها معاهدة في آذار – مارس من العام 1979، لم يعد احتمال الحرب مع إسرائيل واردا. ما بقي من شعارات، رفعها الذين يريدون محاربة إسرائيل، هو متاجرة بفلسطين والفلسطينيين تتولّاها إيران التي انضمت إليها تركيا رجب طيّب أردوغان لاحقا في ممارسة هذه اللعبة. هل على دولة مثل الإمارات أن تكون تحت رحمة إيران، التي تحتل ثلاث جزر من جزرها (أبوموسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى) منذ العام 1971، وأن تسعى إلى استرضائها كي يرضى عنها بعض الفلسطينيين من المزايدين؟ هل عليها انتظار التدخل التركي في شؤونها من زاوية تزعّم تركيا هذه الأيّام للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، كي تصبح مقبولة من حركة متطرّفة مثل “حماس” وضعت نفسها في كلّ وقت في خدمة إسرائيل؟
كان الخطابان الحضاريان في مضمونهما واللذان ألقاهما في حديقة البيت الأبيض في مناسبة الاحتفال بتوقيع اتفاقي السلام الإماراتي والبحريني كلّ من الشيخ عبدالله بن زايد وزير الخارجية الإماراتي وعبداللطيف الزياني وزير الخارجية البحريني دليلا على إصرار على طيّ صفحة من صفحات الماضي في المنطقة. هناك للمرّة الأولى دولتان عربيتان تعقدان اتفاق سلام مع إسرائيل من دون أن تكونا دخلتا في حروب معها. تفعلان ذلك من خلال نظرة استراتيجية إلى المنطقة ككلّ وإلى ما آلت إليه أحوالها. تفعلان ذلك أيضا في سياق طرح أسئلة ذات طابع مستقبلي مرتبطة بالأمن الإقليمي والعلاقة مع أميركا.
ليس خافيا أنّ الولايات المتّحدة تفكّر في مستقبل وجودها في المنطقة كلّها، خصوصا في ظلّ تقلّص اعتمادها على نفط الخليج من جهة وانشغالها بملفات أخرى من بينها مستقبل العلاقة مع الصين من جهة أخرى.
هناك دونالد ترامب في البيت الأبيض اليوم. ماذا إذا جاء جو بايدن نتيجة انتخابات الثالث من تشرين الثاني – نوفمبر المقبل؟ قد يكون بايدن أفضل من ترامب أو أسوأ منه. ولكن هل يمكن لأي دولة عربية، خصوصا إذا كانت في الخليج دخول رهان على المجهول؟
اختار الملك حسين اللحظة المناسبة بعدما ذهب الفلسطينيون إلى اتفاق أوسلو كي يعتبر أنّه بات من حقّ المملكة الهاشمية رسم حدودها النهائية وأخذ كلّ حقوقها في الأرض والمياه
تبقى إسرائيل في نهاية المطاف أحد أهمّ الجسور إلى واشنطن بغض النظر عن اسم المقيم في البيت الأبيض. مع إسرائيل، هناك مجال لإقامة علاقات ذات منفعة متبادلة على ارتباط بالتكنولوجيا الحديثة في مجالات مختلفة وأمور أخرى كثيرة كالطب الحديث والأبحاث مثلا. الأكيد، سياسيا، أنّه سيكون للإمارات تأثير إيجابي في الداخل الإسرائيلي للحدّ من الاندفاع في اتجاه قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية.
في النهاية، إن التعاطي مع الإسرائيليين يكون إمّا عن طريق الحرب وإمّا عن طريق الحوار. إذا كانت مصر، كبرى الدول العربية، اقتنعت بالحوار ولم تسترجع أراضيها المحتلّة في العام 1967، بما في ذلك طابا، إلّا بعد الحوار، فهل هناك وجود لحرب يمكن أن تدعمها أو تنضمّ إليها دولة الإمارات أو مملكة البحرين؟
جرعة من المنطق ضرورية بين حين وآخر. ما هو ضروري أكثر التفكير في المستقبل وفي كيفية التأقلم مع المعطيات الجديدة في المنطقة، إن في المشرق أو في الخليج. قد ينجح العراق في وضع أسس لعلاقة طبيعية مع إيران يوما. لكنّ الخطرين الناجمين عن العدوانية التركية والمشروع التوسّعي الإيراني يبقيان ماثلين ويفرضان الحيطة والحذر، بما في ذلك التخلّص من عقدة كيفية التعاطي مع إسرائيل وغير إسرائيل.