ما يؤكّد الجمود الفلسطيني والعجز عن الخروج منه، منذ نصف قرن، طريقة التعاطي مع اتفاقي السلام اللذين وقّعتهما مع إسرائيل كلّ من دولة الإمارات ومملكة البحرين.
في مثل هذا الأيام، قبل نصف قرن، أخرج “الجيش العربي”، أي الجيش الأردني المقاتلين الفلسطينيين من المملكة الهاشمية بعدما أقاموا دولة داخل الدولة فيها. سمّى الفلسطينيون ذلك الحدث التاريخي، الذي أنقذ عمليا قضيتهم من الموت، “أيلول الأسود”. في المقابل، سمّاه الذين يتمتعون، ولو بحدّ أدنى من الصدق مع النفس، بأنّه يوم إنقاذ الأردن من الانهيار ويوم إنقاذ المنظمات الفلسطينية المسلّحة من نفسها.
لماذا أنقذ الأردن القضيّة الفلسطينية من الموت؟ الجواب في غاية البساطة، أنّه لو لم يخرج المقاتلون الفلسطينيون من الأردن لكانوا أقاموا في المملكة الهاشمية دولة خاصة بهم تشكّل ما تعتبره إسرائيل “الوطن البديل”. من دفن فكرة “الوطن البديل” التي دعا إليها دائما أرييل شارون واليمين الإسرائيلي هو الأردن نفسه ولا أحد آخر غير الأردن.
دفنها “الجيش العربي” الذي دافع في الماضي عن القدس في حرب العام 1967، الحرب الخاسرة سلفا التي تسبب بها جمال عبدالناصر الذي لم يكن أكثر من ضابط ريفي لم يعرف شيئا في يوم من الأيام عن المنطقة والعالم والتوازنات الدولية… ولا عن أهمّية بقاء الجاليات الأجنبية في مصر. قضى على كل ما هو حضاري في كلّ مدينة مصرية، بما في ذلك القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والمنصورة وحلوان…
بعد خمسين عاما على “أيلول الأسود”، أو سمّه كما شئت، لم يتغيّر شيء. لا يزال الفلسطينيون، والكلام هنا ليس عن الشعب الفلسطيني الذي هو من أكثر شعوب المنطقة نشاطا وثقافة ومعرفة، بل عن قادة فلسطينيين ومسؤولي منظمات يرفضون التعلّم من تجارب الماضي. ما هذا الفارق الرهيب بين فلسطينيين جاؤوا إلى لبنان ولعبوا دورا في نهضته في خمسينات القرن الماضي وستيناته، مثل يوسف بيدس على سبيل المثال فقط، وأحد قادة التنظيمات الفلسطينية، جاء إلى بيروت للسرقة فقط!
كرّرت المنظمات الفلسطينية المسلّحة تجربة الأردن في لبنان. لعبت دورها في القضاء على لبنان بعدما أغرقها نظام حافظ الأسد في مستنقع لم تستطع الخروج منه إلّا بعد اجتياح إسرائيلي صيف العام 1982.
ما عمله الفلسطينيون المسلّحون في الأردن لا يمكن أن يقدم عليه شخص يمتلك حدّا أدنى من الضمير.
ماذا ينفع القضية الفلسطينية لو استطاعت المنظمات الفلسطينية في العام 1970 قلب عرش الملك حسين؟ ما الذي كان لديها لتفعله في الأردن غير الاعتداء على سيادته والقضاء على مؤسسات الدولة؟ ما حصل في الأردن تكرّر في لبنان.
لا يمكن إلّا لوم ياسر عرفات الذي لم يستطع في أيّ وقت وضع حدّ لتجاوزات الفلسطينيين، بما في ذلك المشاركة في الخطف على الهويّة في بيروت. لا يمكن بالطبع تبرئة اللبنانيين من كلّ الطوائف، من الذين شاركوا في الحرب الأهلية.
لكن السؤال الذي لا يزال يدور في البال، ألم ير ياسر عرفات ما يدور أمامه من تجاوزات واعتداءات على اللبنانيين وارتضى أن يكون لبنان مجرّد “ساحة”؟ ارتضى ذلك، علما أن الطرف الذي استخدم “الساحة” اللبنانية، أفضل من غيره، كان بالفعل حافظ الأسد الذي وظّف الفلسطينيين، كما وظّف الميليشيات اليسارية والمسيحية في خدمة مشروع وضع اليد على لبنان وعلى القرار الفلسطيني المستقلّ.
في مرحلة لاحقة، استخدم حافظ الأسد وجود قائد الجيش ميشال عون في قصر بعبدا، كرئيس لحكومة مؤقتة، ليستكمل سيطرته على لبنان، كلّ لبنان ابتداء من 13 تشرين الأوّل – أكتوبر 1990. من يتذكّر وقتذاك أن ميشال عون اختار أن يكون إلى جانب صدّام حسين!
لنضع خلفنا مرحلتي لبنان والأردن ونضع أمامنا مرحلة ممارسة الدبلوماسية الفاعلة، بين 1987 و1993، وهي المرحلة التي أوصلت إلى اتفاق أوسلو بكلّ حسناته وسيئاته. لم يكن ممكنا الوصول إلى أوسلو، مباشرة بعد مؤتمر مدريد للسلام، لولا الخطأ الضخم الآخر الذي ارتكبه ياسر عرفات في العام 1990 عندما اتخذ موقفا مؤيدا لصدّام حسين إثر غزوه الكويت. يمكن قول الكثير عن أوسلو وعن الثغرات فيه، لكن ما لا يمكن تجاهله أن أوسلو أوصل ياسر عرفات إلى البيت الأبيض.
لم يكن أوسلو ممكنا لولا فريق المفاوضات الذي كان يشرف عليه مباشرة محمود عبّاس (أبومازن) الذي خلف ياسر عرفات على رأس السلطة الوطنية الفلسطينية. لكنّ لا مجال للتهرّب من واقع يتمثّل في أن “أبوعمّار” كان الوحيد القادر على تغطية أوسلو.
أعاد أوسلو فلسطينيين إلى فلسطين. لم يكن أوسلو فاصلة في تاريخ تطوّر القضيّة الفلسطينية. كان يمكن استثماره وإنْ في حدود معيّنة لو استطاع ياسر عرفات تعلّم شيء من تجربتي الأردن ولبنان ومن تجربة تونس لاحقا. لم يتعلّم شيئا لا عن إسرائيل ولا عن كيفية عمل الإدارات الأميركية المتلاحقة في واشنطن. لم يعرف يوما كيف تعمل واشنطن مثلما لم يعرف ما هي إسرائيل ومعنى توقيع اتفاق معها. كيف يمكن الاعتقاد في أيّ وقت أن دخول فلسطين مثل دخول بيروت مجددا وأن تجربة جمهورية الفاكهاني يمكن أن تتكرّر في رام الله وأن في الإمكان تمرير قضية السفينة “كارين أي” التي كانت عليها أسلحة مهرّبة إلى الداخل الفلسطيني… والتي انطلقت من إيران!
كان متوقّعا أن يكون “أبومازن” تعلّم من أخطاء ياسر عرفات ومن أخطاء تجربتي الأردن ولبنان ومرحلة تونس ثمّ رام الله. كانت لديه ملاحظات كثيرة على المرحلة التي تلت “أيلول الأسود”، لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث. أخذ أسوأ ما في ياسر عرفات ولم يحتفظ بأي من حسناته، بما في ذلك الاستفادة من رأي أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، حتّى أولئك الذين أساؤوا إليه!
ما يؤكّد الجمود الفلسطيني والعجز عن الخروج منه، منذ نصف قرن، طريقة التعاطي مع اتفاقي السلام اللذين وقعتهما مع إسرائيل كلّ من دولة الإمارات العربيّة المتحدة ومملكة البحرين. هل اعترضت أبوظبي والمنامة على توقيع اتفاق أوسلو في أيّ يوم الأيام؟ هل منعتا أحدا من تحرير فلسطين؟
بعد نصف قرن على ما يسمّيه الفلسطينيون “أيلول الأسود”، لم يتغيّر شيء. لا يزال الفلسطينيون يتمتعون بالقدرة على ارتكاب الأخطاء ذاتها. ألم يرفضوا مشروع روجرز (وزير الخارجية الأميركي) في العام 1970 وسيّروا تظاهرات ضدّه في شوارع عمّان؟