بعد أربع سنوات من "عهد حزب الله" لم يعد لبنان مستشفى المنطقة ولا جامعة المنطقة ولا عاصمة الفن والأدب والإعلام والسياحة ولم يعد لبنان مكانا يمكن أن يستثمر فيه أي عربي ماله.
تمرّ بعد أيام قليلة، يوم 31 تشرين الأوّل – أكتوبر تحديدا، الذكرى الرابعة لانتخاب قائد الجيش السابق العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية اللبنانية. أصبح ميشال عون رئيسا بموجب تسوية فرضها “حزب الله” الذي خيّر اللبنانيين بين أن يكون مرشّحه رئيسا للجمهورية… أو إغلاق المجلس النيابي إلى أبد الآبدين، مع ما يعنيه ذلك من فراغ في موقع الرئاسة.
بعد أربع سنوات على دخول ميشال عون قصر بعبدا، كلّ ما يمكن قوله إن الفراغ كان أفضل. تبدو هذه خلاصة منطقية في ضوء ما آل إليه لبنان الذي أصبح مصيره في مهبّ الريح بعد انهيار نظامه المصرفي، مع ما يعنيه ذلك من احتجاز لأموال المودعين وفقدان الثقة ببيروت كمركز مالي للمنطقة، وتدمير لمعظم مؤسسات الدولة.
لم يكن ينقص لبنان سوى تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب – أغسطس 2020. أدّى التفجير إلى سقوط عدد كبير من الضحايا من كلّ المذاهب والطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية. لحق الأذى بأحياء مسيحية في أكثريتها، إذ تضرّرت عشرات الآلاف من المنازل مع ما يعنيه ذلك من موجة هجرة جديدة لمسيحيي لبنان الذي يعاني من عزلة عربية لا سابق لها منذ الاستقلال في العام 1943.
هناك لبنان آخر قام مع وصول ميشال عون إلى قصر بعبدا بعد إغلاق مجلس النوّاب سنتين ونصف سنة للحؤول دون وصول غيره إلى رئاسة الجمهورية. كانت التسوية الرئاسية خطأ لا يغتفر، خصوصا بعدما تبيّن أن وصول ميشال عون إلى الرئاسة سيعني بداية “عهد حزب الله” في لبنان.
ثمّة حاجة إلى تبسيط الأمور إلى أبعد حدّ من أجل فهم ما حصل في لبنان منذ توقيع وثيقة التفاهم المسماة وثيقة مار مخايل بين ميشال عون والأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله في السادس من شباط – فبراير 2006، أي بعد أقل بقليل من مرور سنة على اغتيال رفيق الحريري. يظهر شريط الأحداث الممتد من شباط – فبراير 2006 إلى 31 تشرين الأوّل – أكتوبر 2016 أن ميشال عون اجتاز بنجاح كلّ الاختبارات التي أخضعها له “حزب الله”.
بدأت الاختبارات بتغطية حرب صيف 2006 ثم الاعتصام في وسط بيروت وتجاهل اتخاذ موقف من غزوة العاصمة والجبل التي قام بها الحزب في أيّار – مايو 2008، والتي كانت انقلابا بكل معنى الكلمة. لا تزال مفاعيل هذا الانقلاب تتفاعل إلى اليوم. كان يفترض بمفاعيل هذا الانقلاب أن تكون سببا كافيا لتفادي الدخول في تسوية تؤدي إلى انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية، خصوصا أن من بين الارتكابات التي غطاها مشاركة “حزب الله” النظام الأقلّوي السوري في الحرب التي يشنّها على شعبه الباحث عن حدّ أدنى من الكرامة منذ آذار – مارس من العام 2011.
كان خيار “حزب الله” خيارا مدروسا وموفّقا، بالنسبة إليه طبعا وليس بالنسبة إلى لبنان. كان الحزب يعرف نقطة الضعف الأهمّ عند ميشال عون. كانت هذه النقطة تتمثّل في الوصول إلى موقع رئيس الجمهورية بأيّ ثمن. كان يدرك أن قناة الاتصال بميشال عون، وهي صهره جبران باسيل، لا تقلّ عنه رغبة في الوصول إلى رئاسة الجمهورية. انتهى الأمر بأن تحوّل جبران باسيل إلى الشخص الوحيد الموثوق به لدى ميشال عون. إنّه الشخص الذي استطاع إيصاله إلى قصر بعبدا، لا أكثر ولا أقلّ.
الأهمّ من ذلك كلّه أن هذا الشخص يتمتع بأفضل علاقة مع “حزب الله”. أكثر من ذلك، كان صوت إيران في مجلس جامعة الدول العربيّة عندما شغل موقع وزير الخارجيّة. هذا أمر لم يحصل يوما في تاريخ لبنان منذ تأسيس الجامعة. رأى العرب في مداخلات باسيل في مجلس جامعة الدول العربية انحيازا فاضحا إلى إيران و”محور الممانعة” الذي تقوده في المنطقة. جعلهم ذلك ينسون لبنان ويعتبرون أنّه ساقط عسكريا وسياسيا في المحور الإيراني ولا مجال لانتشاله من هذا المستنقع.
يدفع لبنان ثمن وصول ميشال عون إلى قصر بعبدا. يدفع المسيحيون ثمن تغطية “التيار العوني” لسلاح “حزب الله” مع ما يعنيه ذلك من صدام مع النظام المالي الدولي من جهة وعزلة عربيّة من جهة أخرى. فبعد أربع سنوات من رئاسة ميشال عون خرج لبنان من النظام المصرفي الدولي بعد تلقيه إنذارات عدّة من الإدارة الأميركية رفض فهم معناها والنتائج التي ستترتب عليها.
بعد أربع سنوات من “عهد حزب الله”، لم تعد بيروت بيروت نفسها. لم يعد لبنان مستشفى المنطقة ولا جامعة المنطقة ولا عاصمة الفن والأدب والصحافة والإعلام والسياحة. لم يعد في بيروت مقهى أو مسرح أو ملهى يقصده اللبنانيون والعرب. لم يعد لبنان مكانا يمكن أن يستثمر فيه أي عربي ماله.
ما لم ينجح به ميشال عون في الأعوام 1988 و1989 و1990، عندما شغل قصر بعبدا للمرّة الأولى بصفة كونه رئيسا لحكومة عسكرية مؤقتة لا مهمّة لها سوى تأمين انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس أمين الجميّل، نجح فيه في السنوات الأربع الأخيرة. من لم يهاجر من المسيحيين والمسلمين في أواخر ثمانينات القرن الماضي، يفكّر في الهجرة الآن.
لم يدرك اللبنانيون بعد إلى أي درجة بلغت حال الاهتراء في بلدهم وإلى أيّ حد صاروا فقراء في وقت أخذ “الثنائي الشيعي” مبادرة تغطية التفاوض مع إسرائيل في شأن الحدود البحرية مع ما ينطوي عليه ذلك من رموز. في مقدّم هذه الرموز أنّ “حزب الله” يستطيع أن يعمل ما لا يستطيع غيره عمله وأن يأخذ البلد إلى حيث يشاء. أكثر من ذلك، أنّه يستطيع فرض ما يريده على اللبنانيين في خدمة مشروع توسّعي إيراني لا علاقة له بلبنان من قريب أو بعيد. يفعل ذلك في مرحلة تبدو المنطقة فيها مقبلة على تغييرات كبيرة في ظلّ اختراقات إسرائيلية في اتجاهات مختلفة وفي ظلّ هبوط لسعر النفط وانتشار لا سابق له لكورونا في كلّ أنحاء العالم.
بعد أربع سنوات من عهد ميشال عون أو “عهد حزب الله”، لبنان دخل المجهول أكثر من أيّ وقت.