أثبت اللقاء الفلسطيني أنّ هناك قيادة لم تعد لها علاقة بالقضية من قريب أو بعيد، هناك قيادة تبحث عن كيفية المحافظة على موقعها في السلطة ولا شيء آخر غير ذلك.
هناك لقاء خارج التاريخ، عقده ما يسمّى قادة الفصائل الفلسطينية عبر شبكة إلكترونية مغلقة ربطت بين بيروت ورام الله. إذا كان هذا اللقاء دلّ على شيء، فهو دلّ على العجز عن التعاطي مع الواقع ومع التطورات التي طرأت على القضيّة الفلسطينية في السنوات الأخيرة، خصوصا منذ سقوط العراق في العام 2003 وظهور المشروع التوسعي الإيراني على حقيقته ثمّ بدء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتباع سياسة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها من النوع المغامر.
تتاجر إيران وتركيا بفلسطين. تزايدان على العرب وعلى الفلسطينيين أنفسهم. مَن مِن بين الفلسطينيين الذين يدعون أنّهم يتحملون مسؤولية معينة كشف هذا الوضع؟ من هو المسؤول الفلسطيني الذي تحدث صراحة عن الدورين الإيراني والتركي الفارغين من أي مضمون!
ترافق ذلك كلّه مع توجه المجتمع الإسرائيلي أكثر إلى اليمين في ظلّ إدارة أميركية مستعدّة لتغطية كلّ ما يقوم به بنيامين نتانياهو. ثمّة دليل في غاية الوضوح على ذلك يتمثّل في نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعتراف أميركا بالقدس الموحّدة عاصمة لإسرائيل.
لم يوجد بين الذين التقوا بين رام الله وبيروت من يطرح سؤالا واحدا من نوع لماذا مرّ ضمّ القدس الشرقية مرور الكرام؟ أين إيران من ذلك كلّه؟ خصصت “الجمهورية الإسلامية” يوما للقدس هو آخر يوم جمعة من شهر رمضان. هل ساعدت إيران في تحرير بناية من أبنية القدس أو معلما من معالمها؟ أين المزايدات الأردوغانية وما الذي آلت إليه محاولات الرئيس التركي فكّ الحصار عن غزّة في العام 2010؟
أثبت اللقاء الفلسطيني أنّ هناك قيادة لم تعد علاقة لها بالقضية من قريب أو بعيد، هناك قيادة تبحث عن كيفية المحافظة على موقعها في السلطة ولا شيء آخر غير ذلك. في المقابل، تبحث “حماس” عن مصالح محدّدة خاصة بها. تتلخّص هذه المصالح في المحافظة على “الإمارة الإسلامية” التي أقامتها جماعة الإخوان المسلمين الفلسطينية في القطاع بهدف جعل أهله يعيشون في سجن كبير في الهواء الطلق. ما الذي يمكن قوله، غير ذلك، عن حال غزّة التي كان فيها مطار باسم ياسر عرفات في مرحلة معيّنة… كما كان فيها معبر حدودي لائق إلى مصر يشارك في الإشراف عليه مراقبون من الاتحاد الأوروبي؟ الأكيد أنّ “حماس” التي نفّذت انقلابها في منتصف العام 2007 ترفض أن تتذكّر ذلك، مثلما ترفض ان تتذكّر الجرائم المشينة التي ارتكبتها في حق عناصر من “فتح”…
بدل الكلام اللائق الصادر عن إسماعيل هنيّة في مخاطبته لـ”أبومازن”، لماذا لا يطرح رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” مشروعا سياسيا واقعيا يستهدف استعادة الوحدة الفلسطينية بدل ترسيخ الشرخ بين الضفّة الغربية والقطاع وتعميقه أكثر فأكثر؟ هل خدمة إسرائيل وسياستها تمنعه من ذلك؟
أمّا قادة الفصائل الأخرى وممثلوها، فقد أصبحوا خارج التاريخ والجغرافيا. لم تحصل “الجبهة الشعبية” و”الجبهة الديمقراطية”، التي تعيش على سرقة مصرف في بيروت في العام 1976، على أكثر من واحد في المئة من أصوات الفلسطينيين في الانتخابات التشريعية التي أجريت في الضفّة الغربية وغزّة مطلع العام 2006. هل من فضيحة فلسطينية أكبر من هذه الفضيحة؟
في رام الله، كان الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس وفي بيروت كان إسماعيل هنيّة، الذي يبدو انّه فضّل العاصمة اللبنانية على إسطنبول أو طهران حيث مصدر الدعم الحقيقي لحركته التي لا تزال خارج منظمة التحرير الفلسطينية. كان في العاصمة اللبنانية آخرون من ممثلي الفصائل الفلسطينية التافهة وقادتها الذين حضروا من دمشق، بما في ذلك ممثل لـ”الجبهة الشعبية – القيادة العامة” التي يتزعمّها أحمد جبريل، والتي ليست سوى فرع لأحد الأجهزة الأمنية السورية. كيف يمكن لممثلي الفصائل الفلسطينية الموجودين في دمشق تمثيل الشعب الفلسطيني بأيّ شكل من الأشكال ما داموا لم يتمكنوا من حماية مخيّم اليرموك الذي شرّد النظام أهله؟
كلام كثير قيل في اللقاء الذي يبقى أهمّ ما فيه تبادل الكلام المهذّب بين “أبومازن”، في حين بقي الخلاف بين “حماس” والسلطة الوطنية الفلسطينية، أي حركة “فتح”، على حاله. كان اللقاء فضيحة فلسطينية أخرى. كشف أن ليس لدى ما يسمّى قادة الفصائل سوى الشعارات ومواضيع الإنشاء. لا يشبه كلام هؤلاء سوى ذلك الكلام الذي كان يلقى في مهرجانات خطابية في بيروت في سبعينات القرن الماضي وأوائل الثمانينات منه.
تعيش القيادة الفلسطينية وتعيش الفصائل الفلسطينية في الماضي البعيد. ليس ما يشير إلى أن أحدا تعلّم من تجربة الأردن أو تجربة لبنان أو تجربة تونس أو تجربة ما بعد توقيع اتفاق أوسلو. بين العيش في الماضي وفي ظلّ الشعارات، هناك مخرج من الوضع الراهن. لماذا لا تقدم القيادة الفلسطينية على خطوة تاريخية في اتجاه إجراء انتخابات رئاسية وأخرى تشريعية.
مثل هذه الانتخابات ستؤمن انتقال السلطة إلى جيل جديد من دون عقد قادر على التعاطي مع مستجدات القرن الواحد والعشرين. هناك شعب فلسطيني يمتلك هويّة وطنية راسخة. بات هذا الشعب يعرف ماذا تعني التراجعات التي تعرّضت لها القضيّة الفلسطينية في ظلّ أوضاع إقليمية في غاية التعقيد.
هذا الشعب الفلسطيني، الذي لا يزال نحو سبعة ملايين من أفراده على أرض فلسطين، يعرف كيف يتدبّر أموره والتكيف مع التغييرات إن في إطار دولة واحدة أو دولتين أو كونفيدرالية مع الأردن. هذا الشعب يعرف أن إسرائيل تمتلك هدفا واضحا يتمثل في الاستيلاء على اكبر جزء من الضفّة الغربية وأنّ عليه مواجهتها بغير أسلوب الشعارات والتهديدات التي تطلقها السلطة الوطنية بين حين وآخر.
لا تدلّ هذه التهديدات سوى على رغبة مستمرّة في الهروب إلى الأمام لا أكثر. كيف يمكن لشخص مثل “أبومازن” أو غير “أبومازن” تهديد إسرائيل، وهو يعرف أنّ الخروج من رام الله إلى عمّان في حاجة إلى إذن إسرائيلي؟
الأمل الوحيد الباقي، هو الشعب الفلسطيني. لماذا لا تساعد السلطة الوطنية في خدمة هذا الشعب عبر السماح له بانتخاب قيادة جديدة تواجه الاحتلال بلغة مختلفة. مثل هذه الانتخابات هي الخدمة الوحيدة التي لا تزال السلطة الوطنية قادرة على تقديمها للفلسطينيين…