لا بد من الاعتراف بأن أمراضنا في مسألة الإرهاب تنبع من حال التردي الفقهي الذي يحرك عقول المجموعات الإسلامية، كما تنبع من رعونة الأنظمة ومن ممارسات الاستبداد وتغييب الحوار والديمقراطية.
في ذروة اشتداد الصراع مع إسرائيل كان العمل الإجرامي المشبوه، يُنسب على الفور إلى أطراف معادية دبرته لكي تنال من عدالة القضايا العربية وتساعد على تنميط الإنسان المسلم أو العربي تحديدا. لكننا من خلال التجربة، أصبحنا على دراية بأن هذا الإرهاب ينبثق عن عقول تتجاوز العداء السياسي لدين أو شعب أو طرف محدد، وتستشعر بغرائزها ضرورة الصراع مع الإنسان، فتتسلط على الجنس البشري كله. لذا فإن تعطشها للدماء لا يفرق بين أتباع الأديان، ولا بين أتباع الأوطان.
ما يحيّر في هذا الإرهاب، أن من يقومون به أشباه بشر يتحركون، وليسوا كائنات ميكروسكوبية، فايروسات، وإن كانت أفدح منها في إيذاء البشر. وربما تكون للفايروسات عقول، وأنها تتحرك بفعل نواميس لا نعلمها.
إن هجوم الإرهابيين في فيينا ليلة الاثنين، ليس له تعليل. صحيح أنه يشبه جرائم كثيرة حدثت في أوطاننا وفي العالم، بأيدي أمثال هؤلاء الخونة الغادرين، لكن الصحيح أيضا أن معرفتنا للدوافع، أصعب من معرفة العلماء للطريق الموصل إلى لقاح يقضي على كوفيد – 19.
في مراحل سابقة، كنا نتهم أطرافا بالوقوف وراء الإرهابيين، بهدف ضرب الدين الإسلامي تحديدا والإجهاز على قضايا المسلمين، وإحباط مسعاهم إلى الاستقرار الذي يساعد على إطلاق التنمية، وتأليب الأمم والمجتمعات الأخرى على المسلمين، بهدف “إنجاز” هدف محو الدين والوئام الاجتماعي والتقدم الاقتصادي والعلمي.
لكن المسألة أصبحت مع استمرار الظاهرة، أعجب وأعقد، ولا نعرف إجابة عن أسئلة بسيطة: ما الذي يريده هؤلاء من عابري السبيل؟ وما هو الضائع لهم عند الكنيس اليهودي في فيينا، أو المسجد في بئر العبد في سيناء؟ ومن عقل أي شيطان، تنبثق هذه الجرائم؟ فلا الكنيس اليهودي يصارع مسلمين ولا يهود فيينا يهجمون على مساجد، فيينا، وهي كبيرة ومتعددة، ومفتوحة على شوارع عامة، هي والمراكز الإسلامية. فما هو الهدف من قتل عابري سبيل، وكيف يمكن لأي قضية أن تنتصر بهكذا أفعال إجرامية؟
بكل واقعية وصراحة، لا بد من الاعتراف بأن أمراضنا في مسألة الإرهاب بالذات تنبع من حال التردي الفقهي الذي يحرك عقول المجموعات الإسلاموية، كما تنبع من رعونة الأنظمة ومن ممارسات الاستبداد وتغييب الحوار والديمقراطية.
ثم على المستوى الفقهي، معلوم أن ما يسمى الإسلام السياسي، هو الذي وضع أساس العلة، ولاسيما سيد قطب حصرا، وكل الذين أخذوا منه وبنوا على ما كتب، فكانت المحصلة أدعياء فقه، وذوو أمراض نفسية وحاقدون على أنفسهم ومجتمعهم، ينشدون طهرانية متخيلة، ويتوهمون جدارة في الوصاية على الإيمان، بينما هم أميون وغوغائيون وسفهاء!
ربما لا يكون اليهود، هدف هجمات فيينا حصرا. فأي إنسان يصلح هدفا لهؤلاء؛ كنيسة في مصر، أو جمهور محتشد في شوارع لندن، أو محطة مترو في أوروبا، أو حتى على حانة أو مرقص. لم يخطئ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما قال إن الغالبية العظمى من ضحايا الإرهاب، في المحصلة العامة مسلمون. ويجدر التنويه الى أن أتباع فكر سيد قطب التكفيري، يُكثرون من ترديد مصطلح الأمة. كأنما هم يحبون الأمة ولا يحددون أي أمة. فمن خلال تفوهاتهم بعد التغني بالأمة، نكتشف أنهم يحقدون على 999 من كل ألف إنسان فيها!
لنعترف بأن محاولة السلطات في بلدان العرب والمسلمين، معالجة مشكلة هذا الانحراف، قد فشلت لأسباب ذاتية وموضوعية. فلا تزال جماعة “الإخوان” التي يقودها قطبيون، أبعد ما يكونون حتى عن حسن البنا مؤسس الجماعة. وللأسف لا تزال قيادة “الإخوان” القطبية، تعامل كحركة سياسية معتدلة في العديد من البلدان. بل إن معظم دول الغرب لم تطاوع القائلين بتصنيفها إرهابية، علما بأن المسألة يمكن حسمها من خلال استفسار بسيط: هل يوجد إرهابي، طليق أو في السجون، له مرجعية غير تلك التي أرساها سيد قطب والكتابات المتفرعة عن مؤلفاته؟ وإن كانت هناك مرجعية فليقل لنا من يزعم ذلك، أين هي؟ وما هي؟
ويصح أن تتوالى الأسئلة: هل كان علماء الدين الفقهاء على مر التاريخ، الذين دونوا عشرات الألوف من الصفحات في زمن ما قبل الطباعة، جهلاء في الدين، ولم يكن هناك نص أو شرح، قبل ظهور سيد قطب في منتصف العقد الخامس من القرن العشرين؟
هل كان الرجل الذي اشتغل محررا لمجلة المحفل الماسوني في القاهرة (التاج المصري) وكان تلميذا لعباس العقاد ونجيب محفوظ، وكلاهما من غير العابدين، أعلم بشؤون الدين وبأمر علاقة الدين بالدنيا، من الفقهاء الأتقياء الذين استوعبوا المسيحي واليهودي ومكنوا الشعراء الملحدين من إنتاج شعرهم؟
معالجة الظاهرة الإرهابية تتطلب وضع النقاط على الحروف، دون إغفال مسؤولية الأنظمة العربية عن هذه الظاهرة. فمن يروجون للأفكار القطبية، يمارسون عملا غبيا يرتد عليهم، ولنا في الموقف المعلن، الذي تتبناه جماعات “السلفية الجهادية” حيال جماعة “الإخوان” برهان على ما ذهبنا إليه.
المشكلة أن جماعة “الإخوان” التي تتحرك سياسيا وتخوض في سجالات المحاور أو تفتعلها، لم تجرؤ حتى الآن، على مناقشة ما كتبه رجل فشل في أن يكون قاصا أو شاعرا أو ناقدا، فوجد نفسه قادرا على وضع الفكر التكفيري الضال، الذي تسبب في سفك دماء المسلمين وغير المسلمين.
معالجة الظاهرة الإرهابية تبدأ من أتباع مرجعياتها الفقهية. ولا معنى للقول إن “الإخوان” وسطيون ومعتدلون. فطالما أنهم يعتمدون ما كتب سيد قطب، فلا اختلاف بينهم وبين “السلفية الجهادية”. فإن لم تفعل جماعة “الإخوان” ذلك، فستكون أول من يدفع الثمن، هي ومن يساندها وتسانده. واللافت أن في هذا التساند نفاقا مشهودا، عندما نرى حاكما مثل أردوغان، يرعى جماعة ذات أيديولوجيا يرفض تماما تطبيقها في بلاده، ويصر على أنه يحكم دولة علمانية!