بقلم - غسان شربل
جميلٌ أنْ يدخلَ إيمانويل ماكرون لبنان في زيارته الجديدة من منزل فيروز. دخله قبل أسابيع من الأحياء المنكوبة وميناء العاصمة المدمر. ولعلَّ الرئيس الفرنسي أراد تذكير اللبنانيين بالجسر الأخير الذي عاند العواصف وهو جسر فيروز. لم يبقَ الكثير مما يجمع بين اللبنانيين. ضاعفت السنوات الأخيرة تظهير التباعد بين الينابيع التي يشربون منها والقواميس التي يحتكمون إلى مفرداتها. يختلفون في قراءة الداخل وأفخاخه وفي قراءة الخارج وتحولاته.
يعرف ماكرون أنَّ دولة لبنان الكبير التي أعلنها الجنرال غورو قبل مائة عام تتحشرج وتلفظ أنفاسها. وأنَّ اللبنانيين أمضوا عمرهم بين فشل الزواج واستحالة الطلاق. عاشوا دائماً في بلد معلَّق. يلوّح بالموت ولا يموت. ويلوّح باستعادة الحياة ولا ينجح. ولأنَّ ماكرون صار يعرف العجين واللاعبين صار باستطاعته أن يستنتج. وقع لبنان الكبير في أيدي محاربي لبنان الصغير. في قبضة رجال أقلّ من الحلم الأول والسر الأول. ولا تطاول في الأمر ولا هجاء. إنَّهم جنرالات جزرهم سواء سميتها طوائف أم مناطق أم معاقل. لا يملك أحدهم هالة خارج المنطقة التي يشبهها وتشبهه. لا يملك تفويضاً أوسع منها. ولهذا السبب فإنَّ براعته تتجلَّى في تشييد الجدران وهي مشفوعة دائماً بفشل مدوٍ في بناء الجسور.
ومن يدري فقد يكون لبنان الذي ولد قبل قرن جاء قبل أوانه. لم يكن اللبنانيون جاهزين لشرفة بهذه الصعوبة. ولم تكن المنطقة جاهزة لزمن الشرفات. خريطة رسمت لتوفير مظلة لخائفين على حريتهم أو ثقافتهم أو أسلوب عيشهم. أقليات قلقة من الوقت ومن افتقارها إلى الجموع التي تعطي شعوراً بالقوة والحصانة. وهكذا وُلدت دولة تقوم على التانغو بين المختلفين في منطقة لم يعرف عنها ولعها بغير الراقص الوحيد واللاعب الوحيد.
أغلب الظن أنَّ ماكرون سمع من مساعديه أنَّ القلق هو المواطن اللبناني الأبرز. وأنَّ لبنان الكبير كان يتصدع سريعاً كلَّما ولد قوي في مكون رئيسي وانخرط في تحالف مع محاولة انقلاب في الإقليم. وفي بلد هش تدور المغامرة دائماً على حفافي المقامرة وتأتي الخسائر فادحة. لقد حمَّل كمال جنبلاط لبنان ما يفوق قدرته. ومثله فعل بشير الجميل. ومثلهما يفعل من موقع آخر حسن نصر الله. لم يكن لبنان جاهزاً للتغيير الذي حلم به جنبلاط الأب مع احتضان ياسر عرفات. عاقبته الجغرافيا وبدأ العصر السوري. ولم يكن لبنان جاهزاً لاحتضان انقلاب بحجم الذي حاول بشير الجميل تنظيمه، فعاقبته الجغرافيا بالاغتيال. ولا قدرة للبنان على احتمال الانقلاب الكبير الذي يشكله دور «حزب الله» الإقليمي وقد عاقبت الجغرافيا لبنان بالعزلة ما فاقم رحلته السريعة نحو الإفلاس.
لم يمتلك اللبنانيون ما يكفي من الأنانية الوطنية للسعي إلى النجاة بأنفسهم من أعاصير المنطقة. انخرطوا في تحالفات تفوق طاقتهم وفي نزاعات أكبر منهم وتحولوا فيها محاربين وبيادق. ماذا ينفع اللبناني لو ربح معاركه في خرائط أخرى وخسر لبنان؟ ثم إنَّ لبنان يُدفع إلى كل هذه الحروب بلا تفويض واضح أو صريح. حيث يرغم على قبول خسائر تحولت قاتلة في الفترة الأخيرة.
لا توجد جهة لبنانية تملك حالياً فكرة منقذة تحظى بتأييد غالبية صريحة في كل المكونات الأساسية. ولا وجود لمسؤولين من قماشة رجال الإنقاذ الذين لا بدَّ منهم عند المنعطفات الصعبة. رجال عاديون أو أقل. لا علاقة لهؤلاء بفخر الدين الذي أيقظه الرحابنة ليتعلم اللبناني التائه من وطنيته وانفتاحه. ولا علاقة لهؤلاء بمدلج «جبال الصوان» الذي استشهد دفاعاً عن البوابة. لا علاقة للسياسيين اللبنانيين بوطن فيروز والرحابنة. وطن الحلم والحب والأصالة والتلاقي. وطن قبول الآخر وحق الاختلاف والبحث الدائم عن الجسور. وطن القصائد والألحان والفرح والمواويل والقناديل. الوطن الرافض كل أشكال الظلم، سواء جاءت على يد محتل من الخارج أو مشروع مستبد من الداخل.
تعرَّض لبنان فيروز والرحابنة لعذاب فظيع. قُتل مع كل من قُتل. واغتيل مع كل من اغتيل. وجُرح مع كل من جُرح. لم يتوقف لبنان الكبير عن إنجاب الصقور. لم يتعلم. ولم تتوقف بلاد الأرز عن إنجاب القساة. لم تتعلم. ودبَّت الفوضى وفاحت الرداءة. لا الحكومات حكومات. ولا البرلمان برلمان. ولا الرئيس رئيس. اختلط عشاق الدم بعشاق المال بعشاق الخراب. انفجرت البلاد تحت وطأة الصفقات والسمسرات والمغامرات وحملات التضليل. انحسر وطن المناديل والأيدي التي تلوح لمصلحة وطن السكاكين والأيدي التي تسرق. انهارت البلاد ولم يرف لهم جفن.
يتجرَّع اللبناني الإهانات كما يتجرع الماء. كان يمكن لكارثة المرفأ أن تمر كحادثة سير، على رغم أهوالها، لو لم يبادر ماكرون إلى رفع الصوت. جالَ في الأحياء المدمرة التي لم يجرؤ مسؤول على الاقتراب منها. يتجرَّع اللبناني الإهانات. سيد الإليزيه أكثرُ انهماكاً بمنع اختفاء لبنان من السادة الممددين في مكاتب الجمهورية وعلى شاشاتها. ينصح ويعاتب ويؤنب ويقرع. يستخدم رصيده لإحراجهم بغية الإسراع في تشكيل حكومة تسمح للبنان بالتسول ورد الجوع عن مواطنيه. يا للهول. سرق القراصنة دولة وأغرقوها. يهددون بقتل شعب كامل، ويستخدمون الخردق وقلع العيون لمعاقبة المطالبين بالتغيير.
في المئوية الأولى للبنان الكبير يقف اللبنانيون عراة من كل أحلامهم. الدولة جيفة. الدستور ممسحة. القانون خدعة. التعايش رحلة على زجاج مطحون. المسؤولون جثث بكمامات. لم يبقَ من لبنان الكبير إلا ثريا معلقة فوق الفراغ الهائل. إسوارة في يد القرن الذي ضاع. لم يبقَ إلا فيروز. النبع الوحيد الذي لم تنجح الحروب في تبشيعه. الغيمة الوحيدة التي تعد بالمطر. المنديل الأخير الذي يمسح دموع المهاجرين. لم يبقَ إلا الصوت الكبير المطابق للبنان الكبير. الصوت المسافر في الخريطة وخارجها.
من ذلك النبع الصافي. من قيم الوطنية والجمال والفن والحرية شاء ماكرون أن يستهلَّ رحلته الحاسمة إلى لبنان. من منزل الأيقونة التي يقرع صوتها كالأجراس في ضمائر المكسورين والمعذبين. ولا غرابة في الأمر. هذا الرئيس اللامع يخفي تحت ثيابه كاتباً لامعاً. لديه سلوك يذكر بشجاعة أسلافه عند المنعطفات. أسلوبه يذكّر بفرنسا القيم الإنسانية، وفرنسا الشعراء والكتاب، وقد كانوا دائماً وسادتها وأوسمتها. في ذكرى المئوية الأولى يزور «بياع الخواتم» السيدة التي تعتبر بحق، آخر الخواتم في يد لبنان الكبير.