سيذكّرك عشرون أديباً، ومائة مثقف.. إن كنتَ نسيتَ اسم مؤلف «موت عامل متجول».. وعليك أن تنسى المؤلف والرواية وقراءها أيضاً؟!
في يوم من هذا الأسبوع، مات عامل بسيط (في الأصل)، وعتال غير بسيط (في رواية الحصار).
كل العابرين - على لأي وعلى عجل - لممر سردا يعرفون العامل - العتال جمال.. من بيرزيت.
يقول الكل، من عارفيه أصلاً، ومن تعرفوا عليه بين حاجز وحاجز، إنه طيب القلب، طيبة مفرطة، أو إنه بسيط العقل.. فمن غيره، وقلة ممن تقطعت بهم سبل رزق عيالهم، يمارسون نقل قوت الناس، على عربات بائع متجول؛ بائع يستلّ رزق عياله من صراخ الجنود على «المتسللين»؛ وصراخ المنتظرين على الجنود .. وصراخ الجميع على عمال النقل!
في أيام بعينها تغدو المسافة بين حاجزين كأنها «حقل ألغام». لا تنفجر بين أقدام المتسللين تحت عيون الجنود المتربصة أو بخداعها، بل رصاصات «طائشة» لأنها قد تصيب مقتلاً مقصوداً، وقد تصيب مقتلاً غير مقصود.
هل طلقة في الجبين، بين العينين بالضبط، هي «طلقة طائشة» نقلت العامل - العتال جمال من دفع عربته، ذات العجلات المطاطية، بقوة قدميه (يعرج على إحداهما) إلى الموت؟!على سرير ما، في غرفة ما، من مستشفى رام الله يرقد العامل - العتال جمال على سرير «الموت السريري». عامل في الثلاثين ترك ثلاثة من عياله بلا معيل.
يقول الأطباء (تباً للأطباء) ان لا تنام على قهر، ولا تغالب نوم التعب.
يقول أطباء الحرب أيضا، لا تجعل جريح الحرب ينام قبل أن يسترد ما فقده من دم نازف.
قد ينسيك القهر فضيلة الصبر، فكيف لا ينسيك الجنود نصيحة الطبيب؟
الثامنة مساءً، يوم السبت، أخذتني «سنة من نوم» القهر، بعد أن استنزف الحاجز ذخيرة الصبر كلها: نوم منقطع تسلمك صحوته إلى نوم اكثر تقطعاً.. ربما لأن الساعة البيولوجية لا تعترف بنوم القهر في الثامنة مساء.. لرجل كهل يراود السهر حتى الفجر.
حشد من الناس، مئات منهم، يراوغون صبر الجنود تحت خوذاتهم. مجنزرة وعربة جيب والجنود يلجمون حركة الناس بمدفع رشاش.. عبثاً. ببنادق وأصابع على الزناد.. عبثاً. بقبضة تلوح بقنبلة صوتية.. عبثاً، وأخيراً بمطر من قنابل الغاز .. تبعثر الجمهور شذر مذر!
لعبة خطرة بين «سد» ركيك من الحديد والجنود، وضغط شديد من الجمهور.. وأخيراً، يفتح الجنود ثغرة بسيطة.. ثم يغلقون موجة العبور الثانية بمطر من قنابل الغاز.
العروس الشابة تنتظر، و»الزفة» تنتظر معها. ومعهم تنتظر باقات ورد في أيديهم. الأم التي تحمل طفلا بذراع وتمسك بيدِ طفل آخر. تنتظر. المريض الذي يلوح لجنود المجنزرة بصور اشعة X ليعطوه إذن المرور... أيضاً، العجوز الشجاع، والمثقف الذي يجادل الجنود بالإنكليزية، بالعبرية، وبالروسية. وبالبلغارية أيضا... وعلى الخصوص عمال نقال المتاع، الخضراوات، الزجاج أيضا، وحتى حديد حمايات النوافذ. هؤلاء اكتسبوا نوعا من “حق العبور”.. إلى أن صادرته منهم رصاصة بين عيني العتال جمال.
«الجيران» مسلسل تلفازي أسترالي كوميدي. أما الجيران في مسلسل عبور الحاجز، فأمر آخر يتراوح بين الميلودراما والتراجيديا.
الجار الذي يمنعونه عن مصلحته اليومية في «الحسبة»، ويسمحون لولده اليافع. انه يلعب «الشدة» مع الجيران، ويتابع توجيه النصائح «البلفونية» إلى ولده. قد يرسب الولد في امتحاناته بين إدارة مصلحة أبيه وبين استذكار دروسه.
الجار الشاب، الذي ينتظر مولودا ذكراً ثانيا بعد مولودته الأنثى.. ولا يثق بجنود الحاجز إذا جاء المخاض امرأته، تقيم الزوجة لدى ذويها، ويجازف الزوج، مرة في الأسبوع - خاصة يوم الجمعة - بزيارتها.. إنه يلعب «الشدة» مع جاره، ويرد على ثغاء ابنته على الهاتف : «تعال يا بابا».
الجار الشاب الآخر، الذي لم يدفع إيجار شقته (لأن الرواتب تأخرت إلى الغاية)، اضطر لإرسال زوجته وولديه الطفلين إلى قرية والده.
الجار الطبيب الذي نقل بيته من المدينة إلى القرية هربا من الحرب، ثم نقل بيته من القرية إلى المدينة هربا من مشقات عبور الحاجز.
الجيران من طلاب جامعة بيرزيت، الذين لا يعبرون الحاجز، ولكن لا ينقطع سؤالهم عن أهلهم المحاصرين في جنين، أو سؤال أهلهم عن حالهم في الحصار.
يقول أحد الجيران: كم انقلبت الآية؟ كنا، في الانتفاضة الأولى، الذين نغلق الطرق أمام الجنود بالحجارة .. وكان الجنود يحاولون فتحها.
العائلة الفلسطينية هي الخلية الأكثر صلابة في هذا الشعب. لكن، في هذا الحصار صارت الخلية الأكثر مرونة .. والأكثر تفككاً.